موقع فرع الجمعية الشرعية بقرية البطاخ
مرحبا بكم في منتدي فرع الجمعية الشرعية بقرية
البطاخ التابع لمحافظة سوهاج
يسعدنا انضمامكم لنا عبرسجيلكم فى المنتدى
منتدى فرع الجمعية الشرعية بالبطاخ
مع تحيات مدير المنتدى
مشرف الدعوة بالفرع
موقع فرع الجمعية الشرعية بقرية البطاخ
مرحبا بكم في منتدي فرع الجمعية الشرعية بقرية
البطاخ التابع لمحافظة سوهاج
يسعدنا انضمامكم لنا عبرسجيلكم فى المنتدى
منتدى فرع الجمعية الشرعية بالبطاخ
مع تحيات مدير المنتدى
مشرف الدعوة بالفرع
موقع فرع الجمعية الشرعية بقرية البطاخ
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


فرع الجمعية الشرعية بقرية البطاخ هو أحد فروع الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية بمحافظة سوهاج
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
مرحبا بكم فى منتدي فرع الجمعية الشرعية بالبطاخ ساهموا فى نشر موقعنا
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل
صلي الله على محمد صلي الله عليه وسلم
اللهم أعنا على رضاك حتى ترضي رضاءاً ليس بعده سخط ولا غضب
جميع حقوق الطبع والنشر والتوزيع والتصوير لأي كتاب موجود في المنتدي متااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااح بشرط دعوة صالحة بظهر الغيب
أرجو من كل من استفاد أو تعلم شيئاً من المنتدي أن لا ينسانا من صالح دعائه
نعدكم بإذن الله في كل زيارة لنا بالجديد وبالمفيد
بشري سارة لكل طلاب العلم : تم افتتاح ركن في منتدي فرع الجمعية الشرعية بالبطاخ للإجازات الشرعية المسندة لكل الراغبين في إجازة علمية بالسند مجاناً
هاااااااام جدا لمن لا يعلم :قد تظهر إعلانات على المنتدي بها صور نساء وهي لا تخص المنتدي بل هي تابعة لشركة جوجل ولا يمكن وقفها .

 

 كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 5:55 pm

مقدمة
إن الحمد لله . . .
نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102)
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (النساء:1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (الأحزاب:70-71)
أما بعد . . .
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وأن خير الهدى هدى نبيه محمد  ، وأن شر الأمور محدثاتها ، وأن كل محدثة بدعة ، وأن كل بدعة ضلالة ، وان كل ضلالة في النار .
ثم أما بعد . . .
إن مما دأب عليه أعداء الإسلام استغلال تشكيك بعض أهل الزيغ والضلال في ثوابت الدين , فقاموا بوضع كثير من الشبهات والتشكيكات حول هذه الثوابت التي لا تقبل الشك ، والتي لم يسلم منها أي ثابت من هذه الثوابت , والتي قد سار ورائها ـ مع الأسف ـ الكثير من أبناء المسلمين , فانطلت على أكثرهم , ولذلك لجهلهم وعدم علمهم .
والحق أن علماء المسلمين ـ رحمه الله عليهم ـ لم يتوانوا لحظة على مدى تاريخ الإسلام في القيام بواجبهم في الرد على هذه الشبهات , كل بطريقته الخاصة , وبأسلوبه الذي يعتقد أنه السبيل الأقوم للرد .
وحديثنا في هذا الكتاب هو الرد على نوع واحد من هذه الشبهات ، والتي تدور حول : " أحاديث النبي  " .
فقد قام أعداء الإسلام بتلفيق الكثير من الشبهات والافتراءات حول بعض هذه الأحاديث , والتي غالبيتها ما تكون قد ثبتت بأسانيد كالشمس عن النبي .
لذلك نحاول بإذن الله تعالى في هذا الكتاب أن نرد على هذه الافتراءات وهذه الشبهات العرجاء , والتي يرجع معظمها إلى حقد بغيض في قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، أو ترجع إلى عدم الفهم الصحيح للحديث , سائلين الله تعالى أن يكون هذا العمل خالصاً لوجه الكريم ، وأن يكون من باب الدفاع عنه  وعن سنته , إنه ولي ذلك والقادر عليه .
وقبل أن نبدأ في عرض هذه الشبهات والرد عليها , ننوه إلى مسألتين هامتين في بداية الموضوع ، فنقول وبالله التوفيق :
المسألة الأولى
علم مختلف الحديث ومشكله
من القضايا التي يجب أن تكون مسلمة لدى كل مسلم أن دين الله محفوظ من التناقض والتعارض ، وشريعته منزهة عن التضاد والتضارب ، لأنها منزلة من عند الله العليم الحكيم الذي لا تتضارب أقواله ولا تتنافر أحكامه .
فلا يمكن أن يوجد دليلان صحيحان من حيث الثبوت ، صريحان من حيث الدلالة , يناقض أحدهما الآخر مناقضة تامة واضحة , بحيث يتعذر الجمع والترجيح بينهما بحال من الأحوال .
والقول بوجود تناقض بين أقوال الرسول  إما أن يأتي من عدم المعرفة بعلم الحديث ، بحيث لا يميز القارئ بين الصحيح من غيره ، فيورد التعارض بين أحاديث لا أصل لها ، أو يعارض حديثا صحيحاً بآخر مختلق موضوع ، وإما أن يأتي من عدم الفهم وضعف الفقه في حقيقة المراد بالنص .
وقد كان الإمام ابن خزيمة ـ رحمه الله - وهو ممن اشتهر عنه الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض يقول : " لا أعرف حديثين متضادين ، ومن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما " .
ولذا فإن من الأحكام الجائرة التي ألصقها المستشرقون وأذنابهم بالحديث وأهله دعوى التناقض بين الروايات والأخبار ، مما يجعل ذلك سبباً وجيها بزعمهم للتشكيك والطعن في الحديث النبوي .
لذلك قام علماؤنا ـ رحمه الله عليهم ـ بوضع علماً مستقل في دفع أي حديث يكون ظاهره أنه معارض لأي حديث آخر , وأسموه : " علم مختلف الحديث ومشكله " .
وعلم مختلف الحديث ومشكله من أحد علوم الحديث الهامة , حيث أن فهم الحديث النبوي الشريف فهماً سليماً ، واستنباط الأحكام الشرعية منه استنباطاً صحيحاً , لا يتم إلا بمعرفة مختلف الحديث .
وعلم مختلف الحديث ـ كما عرفه كثير من الأئمة ـ : هو أن يأتي حديثان ظاهرهما التعارض ، أو الحديث الذي يعارضه حديث آخر .1
وعلم مشكل الحديث هو : الحديث الذي لم يظهر المراد منه لمعارضته مع دليل آخر صحيح . 2
والفرق بينهما : أن المختلف سببه معارضة حديث لحديث ظاهراً , بينما مشكل الحديث سبب الإشكال فيه قد يكون التعارض الظاهري بين آية و حديث وقد يكون سببه التعارض الظاهري بين حديثين أو أكثر ، وقد يكون سببه معارضة الحديث للإجماع ، وقد يكون سببه معارضة الحديث للقياس ، وقد يكون سببه مناقضة الحديث للعقل ، وقد يكون سببه غموضاً في دلالة لفظ الحديث على المعنى لسبب في اللفظ ، فيكون مفتقر إلى قرينة خارجية تزيل خفاءه كالألفاظ المشتركة .
 أهمية علم مختلف الحديث .
كما سبق وقلنا : أن فهم الحديث النبوي الشريف فهماً سليماً ، واستنباط الأحكام الشرعية من السنة النبوية ـ على صاحبها أفضل الصلاة و أتم التسليم ـ استنباطاً صحيحاً لا يتم إلا بمعرفة مختلف الحديث ومشكله .
وما من عالم إلا وهو مضطر إليه ومفتقر لمعرفته , ولذا فقد تنوعت عبارات الأئمة في بيان مكانة مختلف الحديث وعظيم منزلته .
ومن ذلك قول ابن حزم الظاهري :
" وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص وأغمضه وأصعبه " . 3
وقال أبو زكريا النووي ـ رحمه الله ـ :
" هذا فن من أهم الأنواع ، ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف " . 4
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :
" فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم " .5
وأن كثيراً من العلماء اعتنوا بمختلف الحديث عنايةً كبيرةً ، من هؤلاء إمام الأئمة ابن خزيمة ـ رحمه الله تعالى ـ فهو من أحسن الناس كلاماً فيه حتى قال عن نفسه : " لا أعرف حديثين متضادين ، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما " . 6
 بيان حقيقة الاختلاف الحقيقي والظاهري .
الاختلاف الحقيقي : هو التضاد التام بين حجتين متساويتين دلالة وثبوتاً وعدداً ، ومتحدتين زماناً ومحلاً , وهذا لا يمكن وقوعه في الأحاديث النبوية لأنها وحي من الله تعالى , قال الله سبحانه : { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى } النجم : 3ـ4 , والوحي يستحيل وقوع الاختلاف والتناقض فيه لقوله تعالى{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا }ً النساء82
قال الإمام محمد بن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في تفسيره لهذه الآية :
" وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم لاتساق معانيه , وائتلاف أحكامه , وتأييد بعضه بعضاً بالتصديق , وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق , فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه , وتناقضت معانيه , وأبان بعضه عن فساد بعض " . 7
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :
" لا يجوز أن يوجد في الشرع خبران متعارضان من جميع الوجوه ، وليس مع أحدهما ترجيح يقدم به " . 8
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
" وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخاً للآخر فهذا لا يوجد أصلاً ، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق  الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق " . 9
الاختلاف الظاهري : وهو وهم يكون في ذهن الناظر ، ولا وجود له في الواقع , قال إبراهيم بن موسى الشاطبي ـ رحمه الله ـ : " كل من تحقق بأصول الشريعة فأدلتها عنده لا تكاد تتعارض , كما أن كل من حقق مناط المسائل فلا يكاد يقف في متشابه , لأن الشريعة لا تعارض فيها البتة , فالمتحقق بها متحقق بما في الأمر , فيلزم أن لا يكون عنده تعارض , ولذلك لا تجد البتة دليلين أجمع المسلمون على تعارضهما بحيث وجب عليهم الوقوف لكن لما كان أفراد المجتهدين غير معصومين من الخطأ أمكن التعارض بين الأدلة عندهم " . 10
وهذا الاختلاف الظاهري له أسباب عديدة قد أوضح ابن القيم شيئاً منها فقال رحمه الله تعالى : " ونحن نقول لا تعارض بحمد الله بين أحاديثه الصحيحة ، فإذا وقع التعارض ، فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه  وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً ، فالثقة يغلط ، أو يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر ، إذا كان مما يقبل النسخ ، أو التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه  ، فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة , وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخاً للآخر فهذا لا يوجد أصلاً ومعاذ الله أن يُوجد في كلام الصادق المصدوق  الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق ، والآفة من التقصير في معرفة المنقول ، والتمييز بين صحيحه و معلوله ، أو من القصور في فهم مراده  ، وحمل كلامه على غير ما عناه به ، أو منهما معاً ، ومن ههنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع وبالله التوفيق " . 11
ومن خلال الكلام السابق لابن القيم يظهر أن أسباب التعارض والاختلاف ترجع إلى :
 إما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه  وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً ، فالثقة يغلط .
 وإما أن يكون أحد الحديثين ناسخاً للآخر ، إذا كان مما يقبل النسخ .
 وإما أن يكون التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه  .
 وإما من جهة تقصير الناظر في معرفة المنقول ، والتمييز بين صحيحه و معلوله , أو من القصور في فهم مراده  ، وحمل كلامه على غير ما عناه به ، أو منهما معاً.
 مثال المخْتلِف .
حديث : " لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ . .12 " , الذي أخرجه مسلم مع حديث : " فِر من المَجذوم 12فرَارَكَ من الأسَدِ " الذي رواه البخاري .
فهذان حديثان صحيحان ظاهرهما التعارض ، لأن الأول ينفي العدوى ، والثاني يثبتها ، وقد جمع العلماء بينهما ووفقوا بين معناهما على وجوه متعددة أذكر هنا ما اختاره الحافظ ابن حجر ، ومفاده ما يلي :
وكيفية الجمع بين هذين الحديثين أن يقال : أن العدوى منفية وغير ثابتة ، بدليل قوله  : " لا يُعدي شيء شيئاً " 14 , وقوله لمن عارضه بأن البعير الأجرب يكون بين الإبل الصحيحة , فيخالطها فتجرب : " فمن أعدى الأول ؟ " . 15
يعني : أن الله تعالى ابتدأ ذلك المرض في الثاني كما ابتدأه في الأول , وأما الأمر بالفرار من المجذوم فمن باب سد الذرائع ، أي لئلا يتفق للشخص الذي يخالط ذلك المجذوم حصول شيء له من ذلك المرض بتقدير الله تعالى ابتداء لا بالعدوى المنفية ، فيظن أن ذلك كان بسبب مخالطته له ، فيعتقد صحة العدوى ، فيقع في الإثم ، فأمر بتجنب المجذوم دفعاً للوقوع في هذا الاعتقاد الذي يسبب الوقوع في الإثم .
 أشهر المصنفات في المختلف .
من العلماء من صنف به مصنفات كالإمام محمد بن إدريس الشافعي في كتابه : " اختلاف الحديث " , الذي ذكر فيه طرفاً من الأخبار المتعارضة ، ولم يقصد الاستقصاء .
وممن صنف فيه كذلك أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينَوَري في كتابه : " تأويل مختلف الحديث " وكان غرضه من هذا الكتاب الرد على من ادّعى على الحديث التناقض والاختلاف ، واستحالة المعنى من المنتسبين إلى المسلمين . 16
ومنهم أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي في كتابه : " مشكل الآثار " وهو من أعظم ما صنف في هذا الباب ، وقد بين في مطلع كتابه غرضه من تأليف الكتاب .
ومنهم أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك في كتابه : " مشكل الحديث وبيانه " , وهذا الكتاب جمع فيه مؤلفه جملة من أحاديث العقيدة التي رأي ابن فورك أن ظاهرها التشبية والتجسيم بناء على مذهبه في الصفات ، فيقوم بتأويلها وصرفها عن ظاهرها المراد منها .
ومنهم من لم يفردوه بالتصنيف ، لكنهم قد بثوه وفرقوه في كتبهم , من هؤلاء حافظ المغرب أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر ، وشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ، وأبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب ، والحافظ أحمد بن علي العسقلاني ، و شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية - رحمهم الله جميعاً- وغيرهم .
والأمر كما قال النووي - رحمه الله – :
" وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه , والأصوليون الغواصون على المعاني " . 17
 قلت ـ المصنف ـ : وهذا النوع من علوم الحديث " علم المختلف " لن يكون مناط حديثنا في هذا الكتاب على الأغلب ، ذلك لأن علماؤنا ـ رحمه الله عليهم ـ قد احتووا هذا العلم ودونه ، ولم يدعوا لأي مشكك أن يتحدث فيه , لذلك قد بينت شيئاً عنه وعن أهميته , وعن ما جمع فيه من الكتب .
ولكن حديثنا في هذا الكتاب عن النوع الثاني من هذا العلم , وهو " علم مشكل الحديث " , وكما سبق من تعريفه أنه : هو الحديث الذي التبس معناه ، أو الذي يعارضه دليل آخر صحيح ، سواء كان هذا المعارض آية من القرآن , أو يعارض اجتهاد ، أو قياس ، أو يكون ـ وهو الأكثر ـ معارضاً للعقل .
وهذا النوع الأخير من التعارض هو الأكثر والأشهر على لسان المشككين وواضعوا الشبهات , لذلك قام كثير منهم برد أحاديث صحيحة قد وردت في أصح كتب الحديث كالبخاري ومسلم ، بحجة أنها تخالف العقل !!
لذلك ولتحرير هذه القضية نوضح في المسألة الثانية هذا الأمر ، فنقول وبالله التوفيق :

المسألة الثانية
عصمة النبــــي 
 تعريف العصمة .
لغة : قال ابن منظور : " العصمة في كلام العرب : المنع ، وعصمة الله عبده : أن يعصمه مما يوبقه ، يقال عصمه ، يعصمه ، عصماً : منعه ووقاه "
وبهذا المعنى جاءت الكلمة في القرآن الكريم والسنة المطهرة .
قال تعالى على لسان سيدنا نوح  وابنه : { يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } هود : 42، 43
شرعا : عرَّف المتكلمون والمحدثون من أهل السنة العصمة في الشرع بتعريفات بعضها يختلف عن بعض لفظاً , إلا أن المعنى واحد ، وقد يختلف بعضها لفظاً ومعنى ، والاختلاف في المعنى يعود إلى من سلب اختيار المعصوم في أفعاله ، ومن أوجبه .
ولعل من أحسن التعريفات للعصمة وأسلمها ما ذكره صاحب كتاب : " نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض " بأنها : " لطف من الله تعالى يحمل النبي على فعل الخير ويزجره عن الشر مع بقاء الاختيار تحقيقاً للابتلاء " 18
 عصمة النبي  سبيل حجية القرآن والسنة الشريفة .
إن عصمة رسول الله  فى التبليغ لها دلالتها وأهميتها فى حجية كل ما يبلغ عن ربه عز وجل من الوحي , سواء كان متلواً من القرآن الكريم ، أو غير متلواً من السنة النبوية المطهرة ، ومن هنا ترى علماء الأصول تناولوا العصمة في مباحث السنة الشريفة ، نظراً لشدة التصاقها بها ، حيث تتوقف حجية السنة المطهرة ، بل والقرآن الكريم أيضاً على عصمة رسول الله  .19
لأن القرآن الكريم والسنة الشريفة ، كليهما دليل شرعي يجب العمل به ، ولا شك أن وجوب العمل به ناتج عن وجوب طاعة الرسول  الذي صدر عنه ذلك الوحي بنوعيه القرآن الكريم والسنة النبوية , ووجوب طاعته  متوقف على صدقه ، وعصمته  من الكذب , وهذا ما أجمعت عليه الأمة ، فقد أجمعوا على عصمته عن أي شئ يخل بالتبليغ ، فلا يجوز عليه كتمان الرسالة والكذب في دعواها لا بالعمد ولا بالسهو ، وإلا لم يبق الاعتماد على شئ من الشرائع 20, إذ عمدة النبوة البلاغ والإعلام والتبيين ، وتصديق ما جاء به النبى  ، وتجويز شئ من الكذب قادح في ذلك ، ومشكك فيه ، ومناقض للمعجزة التي أيد الله عز وجل بها رسله تصديقاً له في رسالته ، وفى كل ما يبلغه عنه سبحانه ، تلك المعجزة القائمة مقام قول الله عز وجل : صدق رسولي فيما يذكر عنى .
وهو يقول : إني رسول الله إليكم لأبلغكم ما أرسلت به إليكم ، وأبين لكم ما نزل عليكم .
وذلك يستلزم أن كل خبر بلاغي عن رسول الله  صادق مطابق لما عند الله إجماعاً فيجب التمسك به.
يدل على ذلك قوله : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى } فكلمة " ينطق " في " لسان العرب " : تشمل كل ما يخرج من الشفتين قولاً أو لفظاً , أي : ما يخرج نطقه  عن رأيه ، إنما هو بوحي من الله عز وجل. 21
ولقد جاءت الآيتان بأسلوب القصر عن طريق النفي والاستثناء ، والفعل إذا وقع في سياق النفي دل على العموم ، وهذا واضح في إثبات أن كلامه  محصور في كونه وحى لا يتكلم إلا به ، وليس بغيره .
وفى هذا دليل واضح على عصمته  في كل أمر بلغه عن ربه عز وجل ، فعن طلحة بن عبيد الله  قال : قال رسول الله  : " إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به ، فإني لن أكذب على الله عز وجل " . 22
وتبليغ وحى الله عز وجل كما يكون بالخبر القولي يكون بالفعل والتقرير ، وبالأمر والنهى ، فإن ذلك كله نوع من البلاغ يستلزم مع حجية جميع أقواله ، حجية جميع أفعاله وتقريراته ، وأوامره ونواهيه .
فيثبت بذلك حجية قوله  في حق القرآن : " هذا كلام الله عز وجل " , و
قوله في الأحاديث القدسية : قال رب العزة كذا ، أو نحو هذه العبارة , وقوله  : " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه " . 23
فأنت ترى من هذا كله أن عصمة رسول الله  من الكذب في الخبر البلاغي لها دلالتها وأهميتها في إثبات حجية القرآن الكريم ، وجميع أنواع السنة على الوجه المتقدم . 24
وفي النهاية أقول : مما سبق يتبين أن نبينا  معصوم في تبليغ رسالته إلى الأمة الإسلامية , لذا لا ينبغي أبداً رد أي حديث قد صح سنده إلى النبي  بحجة أنه يخالف الاجتهاد , أو أنه يعارض العقل , حيث لا ينبغي على الإطلاق أن ننصب العقل حكماًً على التشريعات , ولا أن نقيس الدين بالعقل .
ولله در الإمام علي بن أبي طالب  حيث قال : " لو كان الدين بالرأي لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره " .
ولله در من قال :
علم العليم وعقل العاقل اختلفـــــــــا من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفــا
فالعلم قال : أنا أحرزت غايتــــــــــه والعقل قال : أنا الرحمن بي عرفـا
فأفصح العلم إفصاحاً وقال لــــــــــه بأينا الرحمن في فرقانه اتصفـــــــا
فبان للعقل أن العلم سيـــــــــــــــــده فقبل العقل رأس العلم وانصرفــــا
إذن فالواجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الأخر أن يقبل كل ما ورد عن النبي  بشرط صحة اتصاله إليه  ولا يرده , ولا يجعل العقل مانعاً من قبول هذا الذي قد ورد بحجة أنه لا يقبله ، لأنه إن فعل ذلك فقد وقع في جرم عظيم ، وخطر كبير .
 وإليك أخي القارئ ما وفقت في الوقوف عليه من الأحاديث التي تكلم عنها كثير من أهل البدع والأهواء ، إلى جانب المستشرقين الذين خاضوا في هذا الحديث المبتور , والله المستعان .
   

الحديث الأول
أمرت أن أقاتل الناس
عن ابن عمر  قال :
قال رسول الله  : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , ويقيموا الصلاة , ويؤتوا الزكاة , فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله " .25
 الشبهة : والشبهة التي يروجونها أعداء الإسلام حول هذا الحديث الصحيح هي قولهم : كيف تزعمون أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف ، ونبيكم يقول : " أمرت أن أقاتل الناس " , أليس في هذا الحديث ما يثبت خلاف كلامكم أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف ؟!
 الجواب : من الأكاذيب التي يرددها أعداء الإسلام والمسلمين أن الإسلام قام على السيف , وأنه لم يدخل فيه معتنقوه بطريق الطواعية والاختيار ، وإنما دخلوا فيه بالقهر والإكراه ، وقد اتخذوا من تشريع الجهاد في الإسلام وسيلة لهذا التجني الكاذب الآثم ، وشتان ما بين تشريع الجهاد وما بين إكراه الناس على الإسلام , فإن تشريع الجهاد لم يكن لهذا ، وإنما كان لحكم سامية ، وأغراض شريفة .
إن الإسلام إنما غزا القلوب وأسر النفوس بسماحة تعاليمه في العقيدة ، والعبادات ، والأخلاق ، والمعاملات ، وآدابه في السلم والحرب ، وسياسته الممثلة في عدل الحاكم ، وإنصاف المحكومين ، والرحمة الفائقة ، والإنسانية المهذبة في الغزوات والفتوح ، إنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فلا عجب أن أسرعت إلى اعتناقه النفوس ، واستجابت إليه الفطرة السليمة ، وتحملت في سبيله ما تحملت ، فاستعذبت العذاب ، واستحلت المر ، واستسهلت الصعب ، وركبت الوعر ، وضحت بكل عزيز وغالٍ في سبيله.
ولقد مكث رسول الله  بمكة ثلاثة عشر عاماً ، وهو يدعو إلى الله بالحجة والموعظة الحسنة ، وقد دخل في الإسلام في هذه الفترة من الدعوة خيار المسلمين من الأشراف وغيرهم ، وكان الداخلون أغلبهم من الفقراء ، ولم يكن عند رسول الله  من الثراء ما يغري هؤلاء ، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان ، وقد تحمل المسلمون - ولاسيما الفقراء والعبيد ومن لا عصبية له منهم - من صنوف العذاب والبلاء ألواناً ، فما صرفهم ذلك عن دينهم ، وما تزعزعت عقيدتهم ، بل زادهم ذلك صلابة في الحق ، وصمدوا صمود الأبطال مع قلتهم وفقرهم ، وما سمعنا أن أحداً منهم ارتد سخطاً عن دينه ، أو أغرته مغريات المشركين في النكوص عنه ، وإنما كانوا كالذهب الإبريز لا تزيده النار إلا صفاء ونقاء ، وكالحديد لا يزيده الصهر إلا قوة وصلابة ، بل بلغ من بعضهم أنهم وجدوا في العذاب عذوبة ، وفي المرارة حلاوة .
ثم كان أن هاجر بعضهم إلى بلاد الحبشة هجرتين ، ثم هاجروا جميعاً الهجرة الكبرى إلى المدينة ، تاركين الأهل والولد والمال والوطن ، متحملين آلام الاغتراب ، ومرارة الفاقة والحرمان ، واستمر الرسول بالمدينة عاماً وبعض العام يدعو إلى الله بالحكمة والمجادلة بالتي هي أحسن ، وقد دخل في الإسلام من أهل المدينة قبل الهجرة وبعدها عدد كثير عن رضاً واقتناع ويقين واعتقاد ، وما يكون لإنسان يحترم عقله ويذعن للمقررات التاريخية الثابتة ، أن يزعم أنه كان للنبي  والمسلمين في هذه الأربعة عشر عاماً أو تزيد حول أو قوة ترغم أحداً على الدخول في الإسلام ، إلا إذا ألغى عقله وهدم التاريخ الصحيح .
ثم إن تشريع الجهاد في الإسلام لم يكن لإرغام أحد على الدخول في الإسلام كما زعموا ، وإنما كان للدفاع عن العقيدة وتأمين سبلها ووسائلها ، وتأمين المعتنقين للإسلام ، ورد الظلم والعدوان ، وإقامة معالم الحق ، ونشر عبادة الله في الأرض ، فلما تمالأ المشركون على المسلمين أمرهم الله بقتالهم عامة ، ثم ماذا يقول هؤلاء المغرضون في قوله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{8} إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } الممتحنة : 8 ، 9 .
فالإسلام لم يقف عند حد أن من سالمنا سالمناه ، بل لم يمنع من البر بهم والعدل معهم ، وعدم الجور عليهم ، وكذلك كان موقف القرآن كريماً جداً مع الذين قاتلوا المسلمين ، وأخرجوهم من ديارهم ، أو ساعدوا عليه ، فلم يأمر بظلمهم أو البغي عليهم ، وإنما نهى عن توليهم بإفشاء الأسرار إليهم أو نصرتهم وإخلاصهم الود لهم ، فإن حاربونا حاربناهم ، وصدق الله : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا } البقرة :190
يقول الدكتور / محمد عمارة :
" أن الجهاد في الإسلام دفاعي ، وهو سبيل يلجأ إليه المسلمون عند الضرورة ، أما القول بأن المسلمين مطالبون بقتال مخالفيهم في الدين حتى يؤمنوا بالإسلام فيرى أنها شبهة أصبحت عالقة بسماء الفكر في عالم الإسلام يجب تبديدها ، وتبرئة الفكر منها .
ويستدل بقوله تعالى : { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ } البقرة: 190، ويعلق بقوله : فالمطلوب هنا ليس قتال المخالفين لنا في الدين ، وإنما قتال الذين يقاتلوننا من بين هؤلاء المخالفين فحكمة القتال وسبب هما : قتال هؤلاء المخالفين لنا ، و عدوانهم علينا ، وليس مجرد الخلاف لنا في الدين ! ذلك أن الإسلام لا ينهى فقط عن مقاتلة المخالفين لمجرد الاختلاف الديني معهم ، بل إنه يدعو إلى مودتهم والقسط إليهم طالما لم يقاتلونا في الدين , فإن هم قاتلونا ، واعتدوا علينا ، وانتهكوا الحرمات ، وجب علينا قاتلهم .
وأما دلالة الحديث : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله . . " والذي يبدوا للعامة وأنصاف المثقفين ثقافة إسلامية ، من ظاهر ألفاظه ، أنه يدعو إلى مقاتلة المخالفين في الدين ، حتى يتوبوا إلى عقيدة التوحيد , فإن الفقه الحق لمعناه يتطلب ما هو أكثر من النظر العابر لظاهر الألفاظ .
فالمراد " بالناس " الذي أمر الرسول بقتالهم " المشركون " من العرب أولئك الذين كانوا يمنعون ، بالفتنة والعدوان ، دعوة الإسلام من أن تتخذ لنفسها القاعدة الآمنة التي ينطلق منها الدعاة .
فالذين يكفون الأيدي عن قتالنا ويلقون حبال السلام إلى عالم الإسلام وأهله ، لا سبيل لنا عليهم ، أما " المنافقون " الذين لا يكفون أيديهم عن قتال المسلمين فإن " السلطان " الذي قرر الله لنا عليهم يدعونا إلى قتالهم ، رداً للعدوان ، وتأمينًا لعالم الإسلام وحريات المسلمين , فالعدوان أو المسالمة هو المعيار، ليس النفاق , ولا الخلاف في الدين .
والقتال في الإسلام سبيل يلجأ إليها المسلمون عند الضرورة , ضرورة حماية الدعوة ، وتأمين الحرية للدعاة ، وضمان الأمن لدار الإسلام وأوطان المسلمين , وإذا كان ذلك القتال دفاعيًا تمامًا , أو مبادأة يجهض بها المسلمون عدوانًا أكيدًا أو محتملاً , فهو في كل الحالات ضد للعدوان , أما إذا جنح المخالفون إلى السلم ، وانفتحت السبل أمام دعوة الإسلام ودعائه ، وتحقق الأمن لدار الإسلام فلا ضرورة للحرب عندئذ . أهـ . " . 26
وقال الدكتور / عزت عطية :
" المعنى الحقيقي لكلام رسول الله  ، والذي يتغافل عنه أصحاب الاتجاه الواحد , فنحن لا يمكن أن نستدل على موقف الإسلام في مجال من المجالات من آية واحدة أو من حديث واحد ،لأن الآية والحديث كل منهما يمثل جزءاً من الحقيقة ، ومن يفعل ذلك يكون كمن يقول بجزء من الآية كقوله تعالى : { فويل للمصلين } , ثم يقول : إن الله يتوعد المصلين بجهنم ! .
وفيما يختص بشأن قول الرسول  : " أمرت أن أقاتل الناس . . . " , فهو أمر يتعلق بالقتال ، وأساس القتال في الإسلام قول الله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا } , و يقول  : " لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية " .
فالإسلام ينظر إلى القتال على أن القيام به لا يكون إلا عند الضرورة ، كما يقول الله سبحانه وتعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
فالقتال بالنسبة للمسلم مكروه شرعاً وغير مطلوب شرعاً , إلا إذا اقتضت الضرورة كالاعتداء على النفس والأوطان ، فيقول الله تعالى : { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله } , فكان القتال ممنوعاً قبل ذلك ثم أبيح للضرورة
وقول الرسول  : " أمرت أن أقاتل " , يعنى للدفاع عن الدين , فالسكون في ذلك ضعف وجبن لا يليق بالإنسان .
وقوله : " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " , أي : حتى يعترفوا بالتوحيد وما تقتضيه العبودية من العدل .
فحديث رسول الله  هو حلقة في سلسلة طويلة عنوانها : التعامل بين المسلم وغير المسلم ، وهو مقيد بكل هذه الحلقات فيما يتصل بفهم معناها كلها ومن هنا فإن الرسول  عاهد المشركين وصالحهم لمدة طويلة ، وعاهد اليهود , وتعامل المسلمون مع غيرهم سلماً في وقت السلم , وحربا في الحرب في إطار قانوني يعترف العالم بنبله وسموه أهـ .
ثم أن نصوص القرآن والسنة الصحيحة تردان على هذا الزعم وتكذيباته ، وقد صرح الوحي بذلك في غير ما آية قال تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } البقرة : 256 .
وقد يقول قائل : فما تقول في الحديث الشريف : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؟ " .
قلنا : المراد بالحديث فئة خاصة ، وهم وثنيو العرب ، أما غيرهم من أهل الكتاب من اليهود والنصارى فهم على التخيير بين الأمور الثلاثة التي نص عليها حديث مسلم .
على أن بعض كبار الأئمة كمالك والأوزاعي ومن رأى رأيهما يرون أن حكم مشركي العرب كحكم غيرهم في التخيير بين الثلاثة : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال ، واستدلوا بحديث مسلم السابق .
وإذا نظرنا بعين الإنصاف إلى الذين حملوا حديث المقاتلة على وثنيي العرب ، لا نجده يجافي الحق والعدل ، فهؤلاء الوثنيون الذين بقوا على شركهم لم يدعوا وسيلة من وسائل الصد عن الإسلام إلا فعلوها ، ثم هم أعرف الناس بصدق الرسول  ، فهو عربي من أنفسهم والقرآن عربي بلغتهم ، فالحق بالنسبة إليهم واضح ظاهر ، فلم يبق إلا أنهم متعنتون معوقون لركب الإيمان والعدل والحضارة عن التقدم .
هذا إلى أن الشرك مذهب فاسد ، والمذاهب الفاسدة تحارب ويحارب دعاتها بكل الوسائل ، من قتل أو نفي أو سجن ، وهذا أمر مقرر في القديم والحديث وها هي دول الحضارة اليوم في سبيل سلامتها ، بل وفي سبيل إرضاء نزواتها وأهوائها تزهق الآلاف من الأرواح ، ويغمض الناظرون أعينهم عن هذا ولا يعترض المعترضون ، فهل هذا حلال لهم ، حرام على غيرهم ؟! .
فالإسلام حينما لم يقبل من مشركي العرب المحاربين إلا الإسلام بعد ما تبين لهم الحق ، وأصبحوا قلة تعتنق مذهباً فاسداً بجانب الكثرة الكاثرة من العرب التي أسلمت طواعية واختياراً لم يكن متجنياً ولا ظالماً ، فالحديث كيفما فهمناه لا ينهض دليلاً للمفترين على الإسلام .
ويكفي أن الإسلام قد انتشر في كثير من البلدان التي لم يصلها الفتح عن طريق العلماء والتجار والبحارة كأندونيسيا ، والصين ، وبعض أقطار إفريقيا وأوروبا وأمريكا ، فهل جرد المسلمون جيوشاً أرغمت هؤلاء على الإسلام ؟ ألا فليسألوا أحرار الفكر الذين أسلموا من أوروبا وغيرها ، وسيجدون عندهم النبأ اليقين .
لقد انتشر الإسلام في هذه الأقطار بسماحته ، وقربه من العقول والقلوب ، وها نحن نرى كل يوم من يدخل في الإسلام ، وذلك على قلة ما يقوم به المسلمون من تعريف بالإسلام ، ولو كنا نجرد للتعريف به عشر معشار ما يبذله الغربيون من جهد ومال لا يحصى في سبيل التبشير بدينهم وحضارتهم ، لدخل في الإسلام ألوف الألوف في كل عام . ولن ترى ـ إن شاء الله ـ من يحل عروة الإسلام من عنقه أبداً مهما أنفقوا في سبيل دعاياتهم التبشرية ، وبعثاتهم التعليمية والتنصيرية .
أما بعد : فقد لاح الصبح لذي عينين ، وتبين الحق لكل ذي عقل وقلب ، وما إخالك ـ أيها القارئ المنصف ـ إلا ازددت بسماحة الإسلام وسماحة الرسول  في الدعوة إليه .
   

الحديث الثاني
احتجاج آدم وموسى ـ عليهما السلام ـ
عن أبي هريرة  قال :
قال رسول الله  : " حاج موسى آدم فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك , وأشقيتهم , قال : قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن يخلقني , أو قدره علي قبل أن يخلقني ؟ " , قال رسول الله : " فحج آدم موسى " . 27
 الشبهة : أورد هذه الشبهة : " مرعي بن يوسف الحنبلي " حيث قال : " قد وقعت مذاكرة في بعض مسائل القدر في بعض المجالس فذكر لي : أن بعض دراويش متصوفة الفقراء الذين وقعوا في الإباحة والآثام , وطووا بساط الشرع , ورفعوا قواعد الأحكام , وسووا بعقولهم بين الحلال والحرام , كان لا يصوم ولا يصلي , منهمكاً على المحرمات كالخمور ونحوها من اللذات فاعترض عليه في ذلك , فأجاب بما مضمونه : أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف , وأن هذا مقدر علي , وأنا لا أقدر على رفع ما قدره الله علي وأستدل أيضا باحتجاج آدم على موسى حيث قال لموسى : " أفتلومني على أمر قد قدره الله علي قبل أن أخلق , فحج آدم موسى " .
 الجواب : ثم عرض ـ رحمه الله ـ بعد أن ساق هذه الشبهة الرد عليها فقال ـ رحمه الله ـ :
لا ريب أن المقادير سابقة , وقد جرى القلم بما هو كائن إلى الأبد , قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في : ( شرح مسلم ) : " إن الله تعالى قدر مقادير الخلق وما يكون من الأشياء قبل أن يكون في الأزل , وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده , و على صفات مخصوصة , فهي تقع على حسب ما قدرها " .
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية ـ رحمه الله ـ :
" إن علم الله تعالى السابق محيط بالأشياء على ما هي عليه , ولا محو فيه ولا تغيير ولا زيادة ولا نقص , فإنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لا يكون لو كان كيف كان يكون , وأما ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ فهل يكون فيه محو وإثبات على قولين , قال : وأما الصحف التي بيد الملائكة فيحصل فيها المحو والإثبات " .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص  قال : سمعت رسول الله  يقول : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء " , وفي القرآن العزيز : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } , وفيه أيضا : { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } , والآيات والأحاديث في مثل هذا كثيرة , والمقصود هنا أن من شهد هذا المشهد فشهوده حق , لكن وراء هذا المشهد مشهد آخر وهو : أن يشهد المقادير مقدرة بأسبابها , لأنه يشهدها مجردة عن الأسباب , فإنه إن شهد ذلك كان شهوده ناقصاً أعمى , وينشأ له الغلط من أن الأعمال لا تنفع , وأن الأسباب لا تفيد , وهو قول مبني على أصل فاسد , ولا ريب أن هذا الأصل الفاسد الذي وقع فيه بعض المتصوفة ومن التحق بهم هو مخالف للكتاب والسنة وأئمة الدين , ومخالف صريح المعقول , ومخالف للحس والمشاهدة فإن الله تعالى أجرى عادته الإلهية في هذا العالم على أسباب ومسببات تناط بتلك الأسباب , وينسب أيضاً وقوعها إليها نظراً للصورة الوجودية , وإن كان الكل في الحقيقة بقضائه وقدره باعتبار الحقيقة الإيجادية .
وقد سئل النبي  عن إسقاط الأسباب نظراً إلى القضاء والقدر السابق فرد على ذلك كما في الصحيحين عنه أنه قال : " ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة ومقعده من النار " , قالوا : يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ فقال : " لا اعملوا , فكل ميسر لما خلق له " .
وفي صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب  عن النبي  وفيه قال " ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها في الجنة والنار , إلا وقد كتب شقية أو سعيدة " , قال : فقال رجل : يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل ؟ , فقال : " من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة , اعملوا فكل ميسر لما خلق له " .
وفي السنن أنه قيل له : أرأيت أدوية نتداوى بها , ورقى تسترقي بها , وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ فقال : " هي من قدر الله تعالى " , ولما رجع عمر بن الخطاب  عن دخول دمشق من أجل الطاعون قال له أبو عبيدة كما في الصحيحين وهو إذ ذاك أمير الشام : أفراراً من قدر الله ؟ , فقال عمر : " لو غيرك قالها يا أبا عبيدة , نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله " .
فهذا كلام رسول الله  وكلام صاحبه صريح أن السبب والمسبب بقدر الله تعالى , وقال الله تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } , وقال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } , والآيات في هذا كثيرة .
وقال الإمام ابن حزم في كتاب ( الملل والنحل ) :
" صح عن رسول الله  تصحيح الطب والأمر بالعلاج , وأنه  قال : " تداووا , فإن الله تعالى لم يخلق داء إلا خلق له دواء إلا السأم " , والسأم : الموت , قال : فأعترض قوم فقالوا : قد سبق علم الله عز وجل بنهاية أجل المرء ومدة صحته ومدة سقمه , فأي معنى للعلاج ؟
قال : فقلنا لهم : نسألكم هذا السؤال نفسه في جميع ما يتصرف فيه الناس من الأكل والشرب واللباس لطرد البرد والحر , والسعي في المعاش بالحرث والغرس والقيام على الماشية والتحرف بالتجارة والصناعة , ونقول لهم : قد سبق علم الله تعالى بنهاية أجل المرء ومدة صحته ومدة سقمه , فأي معنى لكل ما ذكرنا فلا جواب لهم إلا أن يقولوا : إن علم الله تعالى قد سبق أيضاً بما يكون من كل ذلك , وبأنها أسباب إلى بلوغ نهاية العمر المقدرة , فنقول لهم وهكذا الطب قد سبق في علم الله تعالى أن هذا العليل يتداوى , وأن تداويه سبب إلى بلوغ نهاية أجله , فالعلل مقدرة , والموت مقدر , والعلاج مقدر , ولا مرد لحكم الله ونافذ علمه في كل شيء من ذلك " .
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :
" والناس قد اختلفوا في الدعاء المتعلق بقضاء الحاجات , فزعم قوم من المبطلين متفلسفة ومتصوفة : أنه لا فائدة فيه أصلاً , فإن المشيئة الإلهية والأسباب العلوية إما أن تكون قد اقتضت وجود المطلوب , وحينئذ فلا حاجة إلى الدعاء , أو لا تكون اقتضته حينئذ فلا ينفع الدعاء , وقال قوم ممن يتكلم في العلم : بل الدعاء علامة ودلالة على حصول المطلوب , وجعلوا ارتباطه بالمطلوب ارتباط الدليل بالمدلول لا ارتباط السبب بالمسبب , قال : والصواب ما عليه الجمهور في أن الدعاء سبب لحصول الخير المطلوب كسائر الأسباب المقدرة والمشروعة , وإذا أراد الله بعبد خير ألهمه دعاءه والاستعانة به وجعل استعانته ودعاءه سببا للخير الذي قضاه له , كما أن الله تعالى إذا أراد أن يشبع عبد أو يرويه ألهمه أن يأكل ويشرب , وإذا أراد أن يتوب على عبد ألهمه أن يتوب ه فيتوب عليه , وإذا أراد أن يرحمه أو يدخله الجنة يسره لعمل أهل الجنة , والمشيئة الإلهية اقتضت وجود هذه الخيرات بأسبابها المقدرة لها , كما اقتضت دخول الجنة بالإيمان , ودخول النار بالكفر , وحصول الولد بالوطء , والعلم بالتعلم , لكن ليس كل ما يظنه الإنسان سبباً يكون سبباً كما قد بسطت الكلام على هذا في كتابي : " شفاء الصدور في زيارة المشاهد والقبور " , والمقصود هنا : إنما هو بيان أن الطاعات سبب للثواب , والمعاصي سبب للعقاب خلافا للمتصوفة الإباحية , كما أنه سبحانه جعل إرسال الرسل سبباً لهداية المؤمنين وإقامة حجة الله على الكافرين , ولولا إرسال الرسل ما حصلت هداية المؤمن ولا قامت حجة الله على كافر .
والحاصل أن الأسباب وتأثيرها بمشيئة الله مما لا يُنكر , وإن كان الله تعالى هو خالق السبب والمسبب لا سيما وقد دل العقل والنقل والفطر وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب الأرباب , وطلب مرضاته , والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر , فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمة بمثل طاعته والتقرب إليه , والإحسان إلى خلقه وقد رتب الله سبحانه حصول الخير والشر قي الدنيا والآخرة في كتابه العزيز على الأعمال ترتيب الجزاء على الشرط , والعلة على المعلول , والمسبب على السبب فقال تعالى : { إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم } , وقال : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم } .
وبالجملة : فالقرآن من أوله إلى آخرة صريح قي ترتيب الجزاء بالخير والشر , والأحكام الشرعية مترتبة على الأسباب والأعمال , ومن فقه في هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع , ولم يتكل على القدر جهلاً منه وعجزاً أو تفريطاً وإضاعة , فيكون توكله عجزاً , وعجزه توكلاً , بل الفقيه العارف هو الذي يرد القدر بالقدر , ويجلب القدر بالقدر , ويعارض القدر بالقدر , بل لا يمكن الإنسان أن يعيش إلا بذلك , فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر , والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر , وهكذا من وفقه الله تعالى وألهمه رشده فإنه يدفع قدر العقوبة الأخروية , بقدر التوبة و الإيمان والأعمال الصالحة , وهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها , ورعاها حق رعايتها فثبت بما تقرر أن الله تعالى جعل للسعادة والشقاوة أسباب , وأنه سبحانه هو مسبب الأسباب وخالق كل شئ كما اقتضت ذلك حكمته ومشيئته , وأن الأسباب لا بد منها في وجود المسببات , بمعنى أن الله تعالى لا يحدث المسببات ويشاؤها إلا بوجود الأسباب , فالمؤمن المتوكل يباشر الأسباب كما قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا خذوا حذركم } , وقال : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } .
فما شاء الله كان , وما لم يشأ لم يكن , وما سبق به علمه وحكمه فهو حق واقع وقد علم وحكم أن الشيء الفلاني يقع بالسبب الفلاني , فمن شهد وقوع الولد وحصوله المقدر بسببه الذي هو الوطء , فشهوده كامل , ومن شهد حصول ولد له بلا وطء , فشهوده ناقص أعمى , نور الله تعالى بصيرتنا ورزقنا الإيمان بما قاله هو ورسوله آمين . أ هـ " .
أما الجواب عن هذا الحديث وهو : أن أدم قد احتج على موسى بالقدر إلى آخرة , فنقول : نعم قد ورد ذلك في الحديث الصحيح , لكن ليس هو على معنى ما يتوهمه الإباحية المحتجون على فعل المعاصي بالقدر .
والمقصود من الحديث : أن آدم إنما حج موسى لكونه كان قد تاب من الذنب الصوري , واستسلم للمصيبة التي لحقت الذرية بسبب أكله المقدر عليه .
فالحديث تضمن التسليم للقدر عند وقوع المصائب , وعدم لوم المذنب التائب , وأن المؤمن مأمور أن يرجع إلى القدر عند المصائب , لا عند الذنوب والمعايب , فيصبر على المصائب , ويستغفر من الذنوب كما قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } .
قالت طائفة من السلف كابن مسعود  : " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم " .
وقال غير واحد من السلف : " لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه , وما أخطأه لم يكن ليصيبه " .
فالإيمان بالقدر والرضا بما قدره الله من المصائب والتسليم لذلك هو من حقيقة الإيمان , وأما الذنوب فليس لأحد أن يحتج على فعلها بقدر الله , بل عليه أن لا يفعلها , وإذا فعلها فعليه أن يتوب منها كما فعل آدم .
قال بعض السلف : " اثنان أذنبا آدم وإبليس , فآدم تاب فتاب الله عليه واجتباه , وإبليس أصر على معصيته وأحتج بالقدر فلعن وطرد , فمن تاب من ذنبه أشبه بآدم , ومن أصر وأحتج بالقدر أشبه إبليس , ومن تاب لا يحسن لومه على ذنبه الذي صدر منه , وكيف يلام على سيئات كلها حسنات , لقوله تعالى : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } , ومن لم يتب يلام , ولا يحسن منه أن يحتج على إصراره بالقدر " .
وأيضاً فأدم وموسى أعلم بالله من أن يحتج أحدهما على فعل المعصية بالقدر ويقبله الآخر , إذ لا تلبس لآدم بمعصية حال الاحتجاج , وأيضاً فلو كان ذلك مقبولا لكان لإبليس الحجة بذلك , أيضاً وكان لفرعون الحجة على موسى بذلك أيضا وكذلك سائر الكفار .
وأعلم أن موسى  لم يلم آدم على ذنبه الذي تاب منه , فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له , وموسى أعلم بالله من أن يلوم تائب , فكيف بأبيه آدم الذي تاب الله عليه واجتباه , وإنما لامه لأجل ما لحق الذرية من المصيبة المستمرة والمصيبة تقتضي نوع من الجزع , يقتضي لوم من كان سببها , كما يلام من أوقع أصحابه في مشقة , ولهذا لم يقل له موسى : لماذا أكلت من الشجرة ؟ , وإنما قال له : لماذا أخرجتنا ونفسك في الجنة ؟ , وهذا اللفظ قد روي في بعض طرق الحديث , وإن لم يكن في جميعها فهو مبني لما وقعت عليه الملامة , فظهر بما تقرر أن احتجاج آدم على موسى بالقدر , وأنه حج موسى به , ليس هو على معنى ما يتوهمه الإباحية والزنادقة بل على المعنى المتقدم الظاهر لكل مسلم . أ هـ . 28
   

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 5:59 pm

الحديث الثالث
شبة توسل الضرير بالنبي 
 عن عثمان بن حنيف  قال :
  أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي  فقال : " ادع الله أن يعافيني , قال : " إن شئت دعوت لك , وإن شئت أخرت ذاك فهو خير " , فقال : ادعه , فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه , فيصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة , يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه فتقضى لي , اللهم شفعه في " . 29
   الشبهة : يرى كثير من المخالفون أن في هذا الحديث جواز التوسل في الدعاء بجاه النبي , أو غيره من الصالحين ، إذ فيه أن النبي  علم الأعمى أن يتوسل به في دعائه ، وقد فعل الأعمى ذلك فعاد بصيراً .
     والجواب : قال الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ مجيباً :  
   وأما نحن فنرى أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل المختلف فيه  وهو التوسل بالذات ، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع الذي أسلفناه ـ وهو التوسل بدعاء الصالحين ـ لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه , والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة ، وأهمها :
  أولاً : أن الأعمى إنما جاء إلى النبي  ليدعو له ، وذلك قوله : " أدع الله أن يعافيني " , فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه ، لأنه يعلم أن دعاءه أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره ، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي  أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي  ، ويطلب منه الدعاء له ، بل كان يقعد في بيته ، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً :
  " اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن يشفيني ، وتجعلني بصيراً ".  
  ولكنه لم يفعل ، لماذا ؟ لأنه عربي يفهم معنى التوسل في لغة العرب حق الفهم ، ويعرف أنه ليس كلمة يقولها صاحب الحاجة ، يذكر فيها اسم الموسل به ، بل لابد أن يشتمل على المجيء إلى من يعتقد فيه الصلاح والعلم بالكتاب والسنة ، وطلب الدعاء منه له .
  ثانياً : أن النبي  وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له ، وهو قوله : " إن شئت دعوتُ ، وإن شئت صبرت فهو خير لك " , وهذا الأمر الثاني هو ما أشار إليه  في الحديث الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: " إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه - أي عينيه - فصبر، عوضته منهما الجنة "
  ثالثاً : إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله : " فادع " , فهذا يقتضي أن الرسول  دعا له ، لأنه خير من وفى بما وعد ، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق ، فقد شاء الدعاء وأصر عليه ، فإذن لا بد أنه دعا له ، فثبت المراد ، وقد وجه النبي  الأعمى بدافع من رحمته ، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه ، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع ، وهو التوسل بالعمل الصالح ، ليجمع له الخير من أطرافه ، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه , وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي  له ، وهي تدخل في قوله تعالى : } وابتغوا إليه الوسيلة { كما سبق .
  وهكذا فلم يكتف الرسول  بدعائه للأعمى الذي وعده به ، بل شغله بأعمال فيها طاعة لله سبحانه وتعالى وقربة إليه ، ليكون الأمر مكتملاً من جميع نواحيه ، وأقرب إلى القبول والرضا من الله سبحانه وتعالى ، وعلى هذا ، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء - كما هو ظاهر - وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون .
  رابعاً : أن في الدعاء الذي علمه رسول الله  إياه أن يقول : " اللهم فشفعه في " , وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته  ، أو جاهه ، أو حقه ، إذ أن المعنى : اللهم اقبل شفاعته  في ، أي : اقبل دعائه في أن ترد علي بصري ، والشفاعة لغة : الدعاء ، وهو المراد بالشفاعة الثابتة له  ولغيره من الأنبياء والصالحين يوم القيامة ، وهذا يبين أن الشفاعة أخص من الدعاء ، إذ لا تكون إلا إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً ، فيكون أحدهما شفيعاً للآخر ، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره ، قال في : ( لسان العرب ) : " الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره ، والشافع الطالب لغيره ، يتشفع به إلى المطلوب ، يقال شفعت بفلان إلى فلان ، فشفعني فيه " .
  فثبت بهذا الوجه أيضاً أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه  لا بذاته.
  خامساً : إن مما علم النبي  الأعمى أن يقوله : " وشفعني فيه " ,  أي : اقبل شفاعتي ، أي : دعائي في أن تقبل شفاعته  ، أي دعاءه في أن ترد علي بصري , هذا الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه .
  ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد ، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد ، وتجتثه من الجذور ، وإذا سمعوها رأيتهم ينظرون إليك نظر المغشي عليه , ذلك أن شفاعة الرسول  في الأعمى مفهمومة ، ولكن شفاعة الأعمى في الرسول  كيف تكون ؟ لا جواب لذلك عندهم البتة , ومما يدل على شعورهم بأن هذه الجملة تبطل تأويلاتهم أنك لا ترى واحداً منهم يستعملها ، فيقول في دعائه مثلاً : اللهم شفع في نبيك ، وشفعني فيه .
  سادساً : إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي  ودعائه المستجاب , وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات ، فإنه بدعائه  لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره ، ولذلك رواه المصنفون في : ( دلائل النبوة ) كالبيهقي وغيره ، فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي  , ويؤيده كل من دعا به من العميان مخلصاً إليه تعالى ، منيباً إليه قد عوفي ، بل على الأقل لعوفي واحد منهم ، وهذا ما لم يكن ولعله لا يكون أبداً .
  كما أنه لو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي  وقدره وحقه ، كما يفهم عامة المتأخرين ، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه  ، بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين ، وكل الأولياء والشهداء والصالحين ، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة ، والإنس والجن أجمعين !
  ولم نعلم ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته  إلى اليوم .
  إذا تبين للقارىء الكريم ما أوردناه من الوجوه الدالة على أن حديث الأعمى إنما يدور حول التوسل بدعائه  ، وأنه لا علاقة له بالتوسل بالذات ، فحينئذ يتبين له أن قول الأعمى في دعائه : " اللهم إني أسألك ، وأتوسل إليك بنبيك محمد  " , إنما المراد به : أتوسل إليك بدعاء نبيك ، أي : على حذف المضاف ، وهذا أمر معروف في اللغة ، كقوله تعالى : } واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها { , أي : أهل القرية وأصحاب العير , ونحن والمخالفون متفقون على ذلك ، أي على تقدير مضاف محذوف .
  فإما أن يكون التقدير : إني أتوجه إليك بـ ( جاه ) نبيك ، ويا محمد إني توجهت بـ ( ذاتك ) أو (مكانتك ) إلى ربي كما يزعمون ، وإما أن يكون التقدير : إني أتوجه إليك بـ ( دعاء ) نبيك ، ويا محمد إني توجهت بـ ( دعاءك) إلى ربي كما هو قولنا .
  ولا بد لترجيح احد التقديرين من دليل يدل عليه , فأما تقديرهم ( بجاهه ) فليس لهم عليه دليل , لا من هذه الحديث ولا من غيره ، إذ ليس في سياق الكلام ولا سياقه تصريح أو إشارة لذكر الجاه , أو ما يدل عليه إطلاقا ً، كما أنه ليس عندهم شيء من القرآن أو من السنة أو من فعل الصحابة يدل على التوسل بالجاه ، فيبقى تقديرهم من غير مرجح ، فسقط من الاعتبار، والحمد لله أما تقديرنا فيقوم عليه أدلة كثيرة ، تقدمت في الوجوه السابقة .
  وثمة أمر آخر جدير بالذكر ، وهو أنه لو حمل حديث الضرير على ظاهره وهو التوسل بالذات , لكان معطلاً لقوله فيما بعد : " اللهم فشفعه في ، وشفعني فيه " , وهذا لا يجوز كما لا يخفى ، فوجب التوفيق بين هذه الجملة والتي قبلها  وليس ذلك إلا على ما حملناه من أن التوسل كان بالدعاء ، فثبت المراد ، وبطل الاستدلال به على التوسل بالذات ، والحمد لله .
  على أنني أقول : لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته  ، فيكون حكماً خاصاً به  ، لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين ، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح ، لأنه  سيدهم وأفضلهم جميعاً ، فيمكن أن يكون هذا مما خصه الله به عليهم ككثير مما صح به الخبر ، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات ، فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته لله ، فعليه أن يقف عنده ، ولا يزيد عليه كما نقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى , هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف ، والله الموفق للصواب .
  هذا ولا بد من بيان ناحية هامة تتعلق بهذا الموضوع ، وهي أننا حينما ننفي التوسل بجاه النبي  ، وجاه غيره من الأنبياء والصالحين فليس ذلك لأننا ننكر أن يكون لهم جاه ، أو قدر أو مكانة عند الله ، كما أنه ليس ذلك لأننا نبغضهم ، وننكر قدرهم ومنزلتهم عند الله ، ولا تشعر أفئدتنا بمحبتهم , كلا ثم كلا ، فنحن ولله الحمد من أشد الناس تقديراً لرسول الله  ، وأكثرهم حباً له ، واعترافاً بفضله  ، وإن دل هذا الكلام على شيء فإنما يدل على الحقد الأعمى الذي يملأ قلوب أعداء الدعوة السلفية على هذه الدعوة , وعلى أصحابها ، حتى يحملهم على أن يركبوا هذا المركب الخطر الصعب ، ويقترفوا هذه الجريمة البشعة النكراء ، ويأكلوا لحوم إخوانهم المسلمين ، ويكفروهم دونما دليل ، اللهم إلا الظن الذي هو أكذب الحديث ، كما قال النبي  الأكرم  .   30
            

الحديث الرابع
شبهة توسل عمر بن الخطاب  بعم النبي  
 عن أنس  قال :
 أن عمر بن الخطاب  كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب , فقال : " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا , وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " قال : فيسقون .  31
   الشبهة : هذا الحديث يشبه الحديث السابق , حيث احتج أيضاً بهذا الحديث جماعة من المخالفين فقالوا : أنه يجوز التوسل بالأحياء كما فعل عمر بن الخطاب بتوسله بالعباس في طلب الاستسقاء ، وعلى جواز التوسل بالأموات كما قال عمر بن الخطاب  !! .
  الجواب : قال الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ :
  إن من القواعد المهمة في الشريعة الإسلامية : أن النصوص الشرعية يفسر بعضها بعضاً ، ولا يفهم شيء منها في موضوع ما بمعزل عن بقية النصوص الواردة فيه , وبناء على ذلك فحديث توسل عمر السابق إنما يفهم على ضوء ما ثبت من الروايات والأحاديث الواردة في التوسل بعد جمعها وتحقيقها ، ونحن والمخالفون متفقون على أن في كلام عمر: " كنا نتوسل إليك بنبينا , وإنا نتوسل إليك بعم نبينا " , شيئاً محذوفاً ، لا بد له من تقدير ، وهذا التقدير إما أن يكون : كنا نتوسل بــ ( جاه ) نبينا ، وإنا نتوسل إليك بــ ( جاه ) عم نبينا على رأيهم هم .
  أو يكون : كنا نتوسل إليك بــ ( دعاء ) نبينا ، وإنا نتوسل إليك بــ ( دعاء ) عم نبينا , على رأينا نحن .
  ولا بد من الأخذ بواحد من هذين التقديرين ليفهم الكلام بوضوح وجلاء ولنعرف أي التقديرين صواب لا بد من اللجوء إلى السنة ، لتبين لنا طريقة توسل الصحابة الكرام بالنبي  .
  ترى هل كانوا إذا أجدبوا وقحَطوا قبع كل منهم في داره ، أو مكان آخر ، أو اجتمعوا دون أن يكون معهم رسول الله  ، ثم دعوا ربهم قائلين : " اللهم بنبيك محمد ، وحرمته عندك ، ومكانته لديك اسقنا الغيث " مثلاً .
  أم كانوا يأتون النبي  ذاته فعلاً ، ويطلبون منه أن يدعو الله تعالى لهم ، فيحقق  طلْبتهم ، ويدعو ربه سبحانه ، ويتضرع إليه حتى يسقوا ؟
  أما الأمر الأول فلا وجود له إطلاقاً في السنة النبوية الشريفة ، وفي عمل الصحابة  ، ولا يستطيع أحد من المخالفين أو الطرقيين أن يأتي بدليل يثبت أن طريقة توسلهم كانت بأن يذكروا في أدعيتهم اسم النبي  ، ويطلبوا من الله بحقه وقدره عنده ما يريدون .
  بل الذي نجده بكثرة ، وتطفح به كتب السنة هو الأمر الثاني ، إذ تبين أن طريقة توسل الأصحاب الكرام بالنبي  إنما كانت إذا رغبوا في قضاء حاجة  أو كشف نازلة أن يذهبوا إليه  ، ويطلبوا منه مباشرة أن يدعو لهم ربه ، أي أنهم كانوا يتوسلون إلى الله تعالى بدعاء الرسول الكريم  ليس غير .
  ويرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى : }ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً { النساء : 64 .
  ومن أمثلة ذلك ما جاء في حديث أنس    32, الذي ذكر فيه مجيء الأعرابي إلى المسجد يوم الجمعة حيث كان رسول الله  يخطب ، وعرضه له ضنك حالهم ، وجدب أرضهم ، وهلاك ماشيتهم ، وطلبه منه أن يدعو الله سبحانه لينقذهم مما هم فيه ، فاستجاب له  ، وهو الذي وصفه ربه بقوله : } لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم { التوبة : 128، فدعا  لهم ربه ، واستجاب سبحانه دعاء نبيه  ورحم عباده ونشر رحمته ، وأحيا بلدهم الميت .
  ومن ذلك أيضاً مجيء الأعرابي السابق نفسه أو غيره إلى النبي  وهو يخطب الجمعة الثانية ، وشكواه له انقطاع الطرقات وتهدم البنيان ، وهلاك المواشي ، وطلبه منه أن يدعو لهم ربه ، ليمسك عنهم الأمطار ، وفعل  فاستجاب له ربه جل شأنه أيضاً .
  ومن ذلك ما روته السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ حيث قالت : شكا الناس إلى رسول الله  قحوط المطر ، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى ، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه , قالت : فخرج رسول الله  حين بدا حاجب الشمس  فقعد على المنبر ، فكبر وحمد الله ، ثم قال : " إنكم شكوتم جدب دياركم ، واستئخار المطر إبان زمانه عنكم ، وقد أمركم الله أن تدعوه ، ووعدكم أن يستجيب لكم . . . الحديث "33   ، وفيه انه  دعا الله سبحانه ، وصلى بالناس ، فأغاثهم الله تعالى حتى سالت السيول ، وانطلقوا إلى بيوتهم مسرعين ، فضحك الرسول  حتى بدت نواجذه ، وقال : " أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله " .
  فهذه الأحاديث وأمثالها مما وقع زمن النبي  وزمن أصحابه الكرام  تبين بما لا يقبل الجدال أو المماراة أن التوسل بالنبي  أو بالصالحين الذي كان عليه السلف الصالح هو مجيء المتوسل إلى المتوسل به ، وعرضه حاله له ، وطلبه منه أن يدعو له الله سبحانه ، ليحقق طلبه ، فيستجيب هذا له ، ويستجيب , من ثم الله سبحانه وتعالى .
  وهذا الذي بيناه من معنى الوسيلة هو المعهود في حياة الناس واستعمالهم ، فإنه إذا كانت لإنسان حاجة ما عند مدير أو رئيس , أو موظف مثلاً ، فإنه يبحث عمن يعرفه ثم يذهب إليه ويكلمه ، ويعرض له حاجته فيفعل ، وينقل هذا الوسيط رغبته إلى الشخص المسئول ، فيقضيها له غالباً , فهذا هو التوسل المعروف عند العرب منذ القديم ، وما يزال ، فإذا قال أحدهم : إني توسلت إلى فلان ، فإنما يعني أنه ذهب إلى الثاني وكلمه في حاجته ، ليحدث بها الأول ، ويطلب منه قضاءها ، ولا يفهم أحد من ذلك أنه ذهب إلى الأول وقال له : بحق فلان ( الوسيط ) عندك ، ومنزلته لديك اقض لي حاجتي .
  وهكذا فالتوسل إلى الله عز وجل بالرجل الصالح ليس معناه التوسل بذاته وبجاهه وبحقه ، بل هو التوسل بدعائه وتضرعه واستغاثته به سبحانه وتعالى  وهذا هو بالتالي معنى قول عمر  " اللهم إنا منا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا "
  أي : كنا إذ قل المطر مثلاً نذهب إلى النبي  ، ونطلب منه أن يدعو لنا الله جل شأنه .
  ويؤكد هذا ويوضحه تمام قول عمر  " وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا  " أي : إننا بعد وفاة نبينا جئنا بالعباس عم النبي  ، وطلبنا منه أن يدعو لنا ربنا سبحانه ليغيثنا .
  ترى لماذا عدل عمر  عن التوسل بالنبي  إلى التوسل بالعباس   ، مع العلم أن العباس مهما كان شأنه ومقامه فإنه لا يذكر أمام شأن النبي  ومقامه؟
  أما الجواب برأينا فهو : لأن التوسل بالنبي  غير ممكن بعد وفاته ، فأنى لهم أن يذهبوا إليه  ويشرحوا له حالهم ، ويطلبوا منه أن يدعو لهم ، ويؤمنوا على دعائه ، وهو قد انتقل إلى الرفيق الأعلى ، وأضحى في حال يختلف عن حال الدنيا وظروفها مما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى ، فأنى لهم أن يحظوا بدعائه  وشفاعته فيهم ، وبينهم وبينه كما قال الله عز شأنه : } ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون{ المؤمنون : 100.
  ولذلك لجأ عمر  ، وهو العربي الأصيل الذي صحب النبي  ولازمه في أكثر أحواله ، وعرفه حق المعرفة ، وفهم دينه حق الفهم ، ووافقه القرآن في مواضع عدة ، لجأ إلى توسل ممكن فاختار العباس  ، لقرابته من النبي  من ناحية ، ولصلاحه ودينه وتقواه من ناحية آخرى ، وطلب منه أن يدعو لهم بالغيث والسقيا .
  وما كان لعمر ولا لغير عمر أن يدع التوسل بالنبي  ، ويلجأ إلى التوسل بالعباس أو غيره لو كان التوسل بالنبي  ممكناً ، وما كان من المعقول أن يقر الصحابة  عمر على ذلك أبداً ، لأن الانصراف عن التوسل بالنبي  إلى التوسل بغيره ما هو إلا كالانصراف عن الإقتداء بالنبي  في الصلاة إلى الإقتداء بغيره ، سواء بسواء ، ذلك أن الصحابة  عليهم كانوا يعرفون قدر نبيهم  ومكانته وفضله معرفة لا يدانيهم فيها أحد .
  كما نرى ذلك واضحاً في الحديث الذي رواه سهل بن سعد الساعدي  قال  " أن رسول الله  ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم ، فحانت الصلاة ، فجاء المؤذن إلى أبي بكر ، فقال : أتصلي بالناس ، فأقيم ؟ قال : فصلى أبو بكر ، فجاء رسول الله  والناس في الصلاة ، فتخلص حتى وقف في الصف ، فصفق الناس ، وكان أبو بكر لا يلتفت في الصلاة ، فلما أكثر الناس التصفيق التفت ، فرأى رسول الله  ، فأشار إليه رسول الله  أن أمكث مكانك ، فرفع أبو بكر يديه ، فحمد الله عز وجل على ما أمره به رسول الله  من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في الصف ، وتقدم النبي  فصلى ثم انصرف ، فقال : " يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك ؟ " , قال أبو بكر : ما كان لان أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله  .
  فأنت ترى أن الصحابة  لم يستسيغوا الاستمرار على الإقتداء بأبي بكر  في صلاته عندما حضر الرسول  ، كما أن أبا بكر   لم تطاوعه نفسه على الثبات في مكانه مع أمر النبي  له بذلك ، لماذا ؟
  كل ذلك لتعظيمهم نبيهم  ، وتأدبهم معه ، ومعرفتهم حقه وفضله ، فإذا كان الصحابة  لم يرتضوا الإقتداء بغير النبي  عندما أمكن ذلك ، مع أنهم كانوا بدأوا الصلاة في غيابه  عنهم ، فكيف يتركون التوسل به  أيضاً بعد وفاته ، لو كان ذلك ممكناً ، ويلجئون إلى التوسل بغيره ؟ وكما لم يقبل أبو بكر أن يؤم المسلمين , فمن البديهي أن لا يقبل العباس أيضاً أن يتوسل الناس به ، ويدعوا التوسل بالنبي  لو كان ذلك ممكناً .
  ( تنبيه ) : وهذا يدل من ناحية أخرى على سخافة تفكير من يزعم أنه  في قبره حي كحياتنا ، لأنه لو كان ذلك كذلك لما كان ثمة وجه مقبول لانصرافهم عن الصلاة وراءه  إلى الصلاة وراء غيره ممن لا يدانيه أبداً في منزلته وفضله , ولا يعترض احد على ما قررته بأنه قد ورد أن النبي  قال : " أنا في قبري حي طري ، من سلم علي سلمت عليه " , وأنه يستفاد منه أنه  حي مثل حياتنا ، فإذا توسل به سمعنا واستجاب لنا ، فيحصل مقصودنا ، وتتحقق رغبتنا ، وأنه لا فرق في ذلك بين حاله  في حياته ، وبين حاله بعد وفاته , أقول ـ الألباني ـ :
  لا يعترض أحد بما سبق لأنه مردود من وجهين :
  الأول حديثي : وخلاصته أن الحديث المذكور لا أصل له بهذا اللفظ ، كما أن لفظة " طري " , لا وجود لها في شيء من كتب السنة إطلاقاً ، ولكن معناه قد ورد في عدة أحاديث صحيحة ، منها قوله  : " إن أفضل أيامكم يوم الجمعة  فيه خلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علي الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي " ,  قالوا : يا رسول الله ! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ , قال : " بَليتَ " ، قال :"  إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء " , ومنها قوله  : " الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون " , وقوله  : " مررت ليلة أسري بي على موسى قائماً يصلي في قبره " , وقوله : " إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام " .
  والثاني فقهي : وفحواه أن حياته  بعد وفاته مخالفة لحياته قبل الوفاة ، ذلك أن الحياة البرزخية غيب من الغيوب ، ولا يدري كنهها إلا الله سبحانه وتعالى ، ولكن من الثابت والمعلوم أنها تختلف عن الحياة الدنيوية ، ولا تخضع لقوانينها ، فالإنسان في الدنيا يأكل ويشرب ، ويتنفس ويتزوج ، ويتحرك ويتبرز ، ويمرض ويتكلم ، ولا أحد يستطيع أن يثبت أن أحداً بعد الموت حتى الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ، وفي مقدمتهم نبينا محمد  تعرض له هذه الأمور بعد موته .
  ومما يؤكد هذا أن الصحابة  كانوا يختلفون في مسائل كثيرة بعد وفاته   ولم يخطر في باب أحد منهم الذهاب إليه  في قبره ، ومشاورته في ذلك ، وسؤاله عن الصواب فيها ، لماذا ؟
  إن الأمر واضح جداً ، وهو أنهم كلهم يعلمون أنه  انقطع عن الحياة الدنيا  ولم تعد تنطبق عليه أحوالها ونواميسها , فرسول الله  بعد موته حي ، أكمل حياة يحياها إنسان في البرزخ ، ولكنها حياة لا تشبه حياة الدنيا ، ولعل مما يشير إلى ذلك قوله  : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " , وعلى كل حال فإن حقيقتها لا يدريها إلا الله سبحانه وتعالى ، ولذلك فلا يجوز قياس الحياة البرزخية أو الحياة الأخروية على الحياة الدنيوية ، كما لا يجوز أن تعطى واحدة منهما أحكام الأخرى ، بل لكل منها شكل خاص وحكم معين ، ولا تتشابه إلا في الاسم ، أما الحقيقة فلا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى .
  ونعود بعد هذا التنبيه إلى ما كنا فيه من الرد على المخالفين في حديث توسل عمر بالعباس ، فنقول : إن تعليلهم لعدول عمر  عن التوسل بالنبي  إلى التوسل بالعباس  بأنه لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل هو تعليل مضحك وعجيب ,إذ كيف يمكن أن يخطر في بال عمر  ، أو في بال غيره من الصحابة الكرام  تلك الحذلقة الفقهية المتأخرة ، وهو يرى الناس في حالة شديدة من الضنك والكرب ، والشقاء والبؤس ، يكادون يموتون جوعاً وعطشاً لشح الماء وهلاك الماشية ، وخلو الأرض من الزرع والخضرة حتى سمي ذاك العام بعام الرمادة ، كيف يَرِد في خاطره تلك الفلسفة الفقهية في هذا الظرف العصيب ، فيدع الأخذ بالوسيلة الكبرى في دعائه ، وهي التوسل بالنبي الأعظم  ، لو كان ذلك جائزاً ويأخذ بالوسيلة الصغرى ، التي لا تقارن بالأولى ، وهي التوسل بالعباس ، لماذا ؟
لا لشيء إلا ليبين للناس أنه يجوز لهم التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل !!
 إن الشاهد والمعلوم أن الإنسان إذ حلت به شدة يلجأ إلى أقوى وسيلة عنده في دفعها ، ويدَع الوسائل الأخرى لأوقات الرخاء ، وهذا كان يفهمه الجاهليون المشركون أنفسهم ، إذ كانوا يَدعون أصنامهم في أوقات اليسر ، ويتركونها ويدْعون الله تعالى وحده في أوقات العسر، كما قال تبارك وتعالى : } حتى إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون{ العنكبوت : 265.
  فنعلم من هذا أن الإنسان بفطرته يستنجد بالقوة العظمى ، والوسيلة الكبرى حين الشدائد والفواقر ، وقد يلجأ إلى الوسائل الصغرى حين الأمن واليسر ، وقد يخطر في باله حينذاك أن يبين ذلك الحكم الفقهي الذي افترضوه ، وهو جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل .
  وأمر آخر نقوله جواباً على شبهة أولئك ، وهو : هب أن عمر  خطر في باله أن يبين ذلك الحكم الفقهي المزعوم ، ترى فهل خطر ذلك في بال معاوية والضحاك بن قيس حين توسلا بالتابعي الجليل : يزيد بن الأسود الجُرَشي أيضاً ؟ لا شك أن هذا ضرب من التمحل والتكلف لا يحسدون عليه .
  إلى جانب ذلك نلاحظ في حديث استسقاء عمر بالعباس  أمراً جديراً بالانتباه ، وهو قوله : " إن عمر بن الخطاب كان إذا قَحطوا ، استسقى بالعباس بن عبد المطلب " , ففي هذا إشارة إلى تكرار استسقاء عمر بدعاء العباس   ففيه حجة بالغة على الذين يتأولون فعل عمر ذلك أنه إنما ترك التوسل به  إلى التوسل بعمه  ، لبيان جواز التوسل بالمفضول مع وجود الفاضل ، فإننا نقول : لو كان الأمر كذلك لفعل عمر ذلك مرة واحدة ، ولما استمر عليه كلما استسقى ، وهذا بيّن لا يخفى إن شاء الله تعالى على أهل العلم والإنصاف .
  ولقد فسرت بعض روايات الحديث الصحيحة كلام عمر المذكور وقصده ، إذ نقلت دعاء العباس  استجابة لطلب عمر  ، فمن ذلك ما نقله الحافظ العسقلاني ـ رحمه الله ـ حيث قال : " قد بين الزبير بن بكار في " الأنساب " صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة ، والوقت الذي وقع فيه ذلك ، فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: " اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ، ولم يكشف إلا بتوبة ، وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك ، وهذا أيدينا إليك بالذنوب ، ونواصينا إليك بالتوبة ، فاسقنا الغيث " ، قال : فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض ، وعاش الناس .  34
  وفي هذا الحديث أولاً : التوسل بدعاء العباس  لا بذاته كما بينه الزبير بن بكار وغيره ، وفي هذا رد واضح على الذين يزعمون أن توسل عمر كان بذات العباس  لا بدعائه ، إذ لو كان الأمر كذلك لما كان ثمة حاجة ليقوم العباس ، فيدعو بعد عمر دعاءً جديداً .
  ثانياً : أن عمر صرح بأنهم كانوا يتوسلون بنبينا  في حياته ، وأنه في هذه الحادثة توسل بعمه العباس ، ومما لا شك فيه أن التوسلين من نوع واحد : توسلهم بالرسول  وتوسلهم بالعباس ، وإذ تبين للقارىء - مما يأتي - أن توسلهم به  إنما كان توسلاً بدعائه  فتكون النتيجة أن توسلهم بالعباس إنما هو توسل بدعائه أيضاً , بضرورة أن التوسليْن من نوع واحد .
  أما أن توسلهم به  إنما كان توسلاً بدعائه ، فالدليل على ذلك صريح رواية الإسماعيلي في مستخرجه على الصحيح لهذا الحديث بلفظ : " كانوا إذ قحطوا على عهد النبي  استسقوا به ، فيستسقي لهم ، فيسقون ، فلما كان في إمارة عمر . . . " فذكر الحديث ، نقلته من " فتح الباري " ( 2/399 )  فقوله  " فيستسقي لهم " , صريح في أنه  كان يطلب لهم السقيا من الله تعالى , ففي ( النهاية ) لابن الأثير : الاستسقاء ، استفعال من طلب السقيا أي : إنزال الغيث على البلاد والعباد ، يقال : سقى الله عباده الغيث وأسقاهم ، والاسم السقيا بالضم ، واستقيت فلاناً إذا طلبت منه أن يسقيك .
  إذا تبين هذا ، فقوله في هذه الرواية : " استسقوا به " أي بدعائه ، وكذلك قوله في الرواية الأولى : " كنا نتوسل إليك بنبينا " ، أي بدعائه ، لا يمكن أن يفهم من مجموع رواية الحديث إلا هذا .
  فهل يجوز أن يجمع هؤلاء كلهم على ترك التوسل بذاته  لو كان جائزاً ، سيما والمخالفون يزعمون أنه أفضل من التوسل بدعاء العباس وغيره ؟!
  اللهم إن ذلك غير جائز ولا معقول ، بل إن هذا الإجماع منهم من أكبر الأدلة على أن التوسل المذكور غير مشروع عندهم ، فإنهم أسمى من أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير . أ هـ .35  
  ( مسألة ) قلت ـ المصنف ـ : ولهم شبهة أخرى تتعلق بنفس الموضوع   وهو ما ذكر النبي  أن الناس يوم القيامة يستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فكلهم يعتذرون حتى ينتهوا إلى رسول الله   الحديث.
  قالوا : فهذا يدل على أن الاستغاثة بغير الله ليست شركا .
  والجواب أن نقول : سبحان من طبع على قلوب أعدائه , فإن الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه لا ننكرها , كما قال الله تعالى في قصة موسى : { فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ } القصص : 15 , وكما يستغيث الإنسان بأصحابه في الحرب أو غيره في أشياء يقدر عليها المخلوق ، ونحن أنكرنا استغاثة العبادة التي يفعلونها عند قبور الأولياء ، أو في غيبتهم في الأشياء التي لا يقدر عليها إلا الله , إذا ثبت ذلك ، فاستغاثتهم بالأنبياء يوم القيامة يريدون منهم أن يدعو الله أن يحاسب الناس حتى يستريح أهل الجنة من كرب الموقف , وهذا جائز في الدنيا والآخرة ، وذلك أن تأتي عند رجل صالح حي يجالسك ويسمع كلامك فتقول له : ادع الله لي كما كان أصحاب رسول الله  يسألونه ذلك في حياته ـ وكما سبق بيانه ـ وأما بعد موته ، فحاشا وكلا أنهم سألوه ذلك ، ومن أراد مزيداً من التفصيل  حول هذه المسألة فليرجع إلى كتاب الشيخ الألباني : " التوسل أنواعه وأحكامه  " فسيجد فيه ما يشفي صدره , ويريح قلبه في هذه المسألة , والله المستعان .  
  ( فصل ) :  مما سبق يتبين لك أخي القارئ خطأ من توهموا مشروعية التوسل بالنبي  ، أو بغيره على ما فهموه واعتقدوه ، وقد بينا هذا كما مر .
   ولكن هؤلاء لم يكتفوا فقط بذكر الأحاديث الصحيحة التي يظهر منها مشروعية التوسل بالنبي  أو بغيره ـ والتي بان بطلان اعتقادهم فيها ـ ولكنهم ذكروا أحاديث ـ غير التي مرت ـ  اعتقدوا أنها تفيد جواز التوسل بالنبي   أو بغيره من الأولياء أو الموتى , والتي معظمها أما أن تكون باطلة ، أو موضوعة , أو ضعيفة .
  وحتى تتم الفائدة نذكر هنا هذه الأحاديث مع تخريجها , حتى يظهر فساد وبطلان ما أدعته هذه الفرق المبتدعة .
  1ـ  : "  لما اقترف آدم الخطيئة قال : يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي ، فقال الله : يا آدم و كيف عرفت محمدا و لم أخلقه ؟ قال : يا رب لما خلقتني بيدك ، و نفخت في من روحك ، رفعت رأسي ، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك ، فقال الله : صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي ، ادعني بحقه فقد غفرت لك ، و لولا محمد ما خلقتك " .
  قال الألباني ـ رحمه الله ـ :
  ( موضوع ) . ونقل تعليق الذهبي عليه ، وفيه قال الذهبي : موضوع ، وعبد الرحمن ـ أحد رواته ـ واه ، وعبد الله بن مسلم الفهرى ـ أحد رواته أيضاً ـ لا أدرى من هو .   36
  2ـ : " من خرج من بيته إلى الصلاة فقال : اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك ، و أسألك بحق ممشاي هذا ، فإني لم أخرج أشرا و لا بطرا . . , أقبل الله عليه بوجهه و استغفر له ألف ملك " .
  قال الألباني ـ رحمه الله ـ :  
 ( ضعيف ) .
  أخرجه ابن ماجه ( 1 / 261 - 262 ) و أحمد ( 3 / 21 ) و البغوي في  حديث علي بن الجعد ( 9 / 93 / 3 ) و ابن السني ( رقم 83 ) من طريق فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا به .  37
  3 ـ : " لولاك ما خلقت الدنيا " .
( موضوع ) .  38
  4 ـ : " توسلوا بجاهي ، فإن جاهي عند الله عظيم "
   قال ابن تيمية والألباني : ( لا أصل له ) .   39
  5 ـ : " الأبدال في هذه الأمة ثلاثون ، مثل إبراهيم خليل الرحمن عز وجل كلما مات رجل أبدل الله تبارك وتعالى مكانه رجلاً " .
  ( موضوع ) .  40
 6 ـ : عن أنس بن مالك  قال : لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب، دخل عليها رسول الله  ، فجلس عند رأسها ، فقال :
  " رحمك الله يا أمي ، كنت أمي بعد أمي ، وتشبعيني ، وتعرين وتكسيني ، وتمنعين نفسك طيباً وتطعميني ، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة " .
  ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور، سكبه رسول الله  بيده، ثم خلع رسول الله   قميصه ، فألبسها إياه ، وكفنها ببرد فوقه ، ثم دعا رسول الله  أسامة بن زيد ، وأبا أيوب الأنصاري ، وعمر بن الخطاب ، وغلاماً أسود يحفرون ، فحفروا قبرها ، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله  بيده ، وأخرج ترابه بيده ، فلما فرغ دخل رسول الله  فاضطجع فيه ثم قال : " الله الذي يحيي ويميت ، وهو حي لا يموت ، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ، ولقنها حجتها ، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي ، فإنك أرحم الراحمين " .
  قال الألباني ـ رحمه الله ـ :
  ( ضعيف ) . رواه الطبراني في " الكبير " ( 24 / 351 ـ 352 ) , و في " الأوسط " ( 1 / 152 ـ 153 ) .  41
  7ـ : عن ابن مسعود  مرفوعاً قال : " من أراد أن يرعيه الله حفظ القرآن , فليكتب هذا الدعاء في إناء نظيف بعسل مادي , ثم ليغسله بماء المطر قبل أن يمس الأرض , فيشربه على الريق ثلاثة أيام , فإنه يحفظ بإذن الله تعالى : اللهم إني أسألك فإنك مسئول لم يسأل مثلك , أسألك بحق محمد رسولك ونبيك وإبراهيم خليلك , وصفيك وموسى كليمك , ونجيك وعيسى كلمتك وروحك , وأسألك بصحف إبراهيم , وتوراة موسى , وزبور داود , وإنجيل عيسى , وفرقان محمد , وأسألك بكل وحي أوحيته , وبكل حق قضيته , وبكل سائل أعطيته , وبكل ضال هديته , وغني أفقرته , وفقير أغنيته , وأسألك بأسمائك التي دعاك بها أولياؤك فاستجبت لهم , . . . . " .
  ( موضوع ) .  42
  8 ـ :"  إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور " , أو : " فاستغيثوا بأهل القبور " .
  قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :
  فهذا الحديث كذب مفترى على النبي  بإجماع العارفين بحديثه ، لم يروه أحد من العلماء بذلك ، ولا يوجد في شئ من كتب الحديث المعتمدة .  43
  وقال الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
  " وهو يعدد الأمور التي أوقعت عباد القبور للافتتان بها : " ومنها أحاديث مكذوبة مختلقة ، وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله  تناقض دينه وما جاء به ، كحديث : " إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأصحاب القبور " , وحديث : " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه " , وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام ، وضعها المشركون ، وراجت على أشباههم من الجهال والضلال " .  44
         

الحديث الخامس
أخذ الميثاق من بني آدم
  عن ابن عباس  قال:
  عن النبي  قال :  " أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان , يعنى عرفة فاخرج من صلبه كل ذرية ذرأها , فنثرهم بين يديه كالذر , ثم كلمهم قبلاً قال { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون } .    45
    الشبهة : أليس هذا الحديث خلاف قول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } , لأن الحديث يخبر أنه أخذ من ظهر آدم , والكتاب يخبر أنه أخذ من ظهور بني آدم .
   والجواب : قال أبو محمد ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ  :  
  ونحن نقول إن ذلك ليس كما توهموا , بل المعنيان متفقان بحمد الله ومنه صحيحان , لأن الكتاب يأتي بجمل يكشفها الحديث , واختصار تدل عليه السنة ألا ترى أن الله تعالى حين مسح ظهر آدم  على ما جاء في الحديث , فأخرج منه ذريته أمثال الذر إلى يوم القيامة , أن في تلك الذرية الأبناء , وأبناء الأبناء , وأبناءهم إلى يوم القيامة , فإذا أخذ من جميع أولئك العهد , وأشهدهم على أنفسهم , فقد أخذ من بني آدم جميعاً من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم .
  ونحو هذا قول الله تعالى في كتابه : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } , فجعل قوله للملائكة اسجدوا لآدم بعد خلقناكم وصورناكم , وإنما أراد بقوله تعالى : { خلقناكم وصورناكم } : خلقنا آدم وصورناه , ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم , وجاز ذلك لأنه حين خلق آدم خلقنا في صلبه وهيأنا كيف شاء , فجعل خلقه لآدم خلقه لنا إذ كنا منه , ومثل هذا مثل رجل أعطيته من الشاة ذكراً وأنثى , وقلت له : قد وهبت لك شاة كثيراً تريد : أني وهبت لك بهبتي هذين الاثنين من النتاج شاة كثيراً , وكان عمر بن عبد العزيز وَهَب " دكين الراجز " ألف درهم , فاشترى به دكين عدة من الابل , فرمى الله تعالى في أذنابها بالبركة , فنمت وكثرت فكان دكين يقول هذه منائح عمر بن عبد العزيز , ولم تكن كلها عطاءه , وإنما أعطاه الآباء والأمهات فنسبها إليه إذ كانت نتائج ما وهب له .46  
         

الحديث السادس
شبهة عذاب الميت ببكاء الحي
  عن أبي بردة عن أبيه قال :
  لما أصيب عمر  جعل صهيب يقول وا أخاه , فقال عمر : أما علمت أن النبي  قال : " إن الميت ليعذب ببكاء الحي " .47   , وفي رواية : " أن الميت يعذب بما نيح عليه " .    
   الشبهة : أليس هذا الحديث يخالف قول الله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } , أليس هناك تناقض بين الحديث والآية , وما الذي جناه الميت حتى يعذب ببكاء أهله ، أو بنياحهم عليه ؟  
   والجواب : أجاب عن هذه الشبهة الإمام الكبير العَلم ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله عليه ـ , حيث قال في شرح هذا الحديث :
  " المعنى : أن الذي يعذب ببعض بكاء أهله من كان راضياً بذلك , بأن تكون تلك طريقته .
  ولذلك قال المصنف ـ البخاري ـ :  فإذا لم يكن من سنته , أي : كمن كان لا شعور عنده بأنهم يفعلون شيئا من ذلك , أو أدى ما عليه بأن نهاهم , فهذا لا مؤاخذه عليه بفعل غيره , ومن ثم قال ابن المبارك : إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئا من ذلك بعد وفاته لم يكن عليه شيء .
  ولقد أنكرت هذا السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ بقوله تعالى : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } , أي : ولا تحمل حاملة ذنبا ذنب أخرى عنها .
  وقيل : عنى التعذيب : توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به , كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً : " الميت يعذب ببكاء الحي " , إذا قالت النائحة وا عضداه , وا ناصراه , وا كاسياه , جبذ الميت وقيل له : أنت عضدها , أنت ناصرها , أنت كاسيها , ورواه ابن ماجة بلفظ : يتعتع به , ويقال : أنت كذلك ورواه الترمذي بلفظ : ما من ميت يموت فتقوم نادبته فتقول  واجبلاه , واسنداه , أو شبه ذلك من القول إلا وكل به ملكان يلهزانه : أهكذا كنت , وشاهده : ما روى المصنف ـ البخاري ـ  في " المغازي " , من حديث النعمان بن بشير  قال : أغمي على عبد الله بن رواحة , فجعلت أخته تبكي وتقول واجبلاه , واكذا , واكذا , فقال حين أفاق : ما قلت شيئا إلا قيل لي : أنت كذلك .
  وقيل : معنى التعذيب : تألم الميت بما يقع من أهله من النياحة وغيرها , وهذا اختيار أبي جعفر الطبري من المتقدمين , ورجحه ابن المرابط وعياض ومن تبعه , ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين , واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة وهي بفتح القاف وسكون التحتانية .
  وقيل : يحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلاً : من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته , أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه .
  ومن كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به .
  ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها , فإن كان راضيا بذلك التحق بالأول , وأن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي .
  ومن سلم من ذلك كله , واحتاط فنهى أهله عن المعصية , ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره , وإقدامهم على معصية ربهم والله أعلم . أ هـ .   48
         

الحديث السابع
فقأ موسى  لعين ملك الموت
  عن أبي هريرة  قال :
  قال رسول الله  : " جاء ملك الموت إلى موسى  فقال له : أجب ربك قال : فلطم موسى  عين ملك الموت ففقأها , قال : فرجع الملك إلى الله تعالى فقال : إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني , قال : فرد الله إليه عينه وقال : ارجع إلى عبدي فقل الحياة تريد ؟
  فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور , فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة , قال : ثم مه ؟ قال : ثم تموت , قال : فالآن من قريب رب أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر " , قال رسول الله  : " والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر " .  49
   الشبهة : قيل : كيف يفقأ موسى عين ملك الموت وهو قادم من قبل الله لقبض روحه , وهل موسى  يكره لقاء الله لأجل ذلك فقأ عين ملك الموت ؟!  
   وقال ابن خزيمة في ( فتح الباري ) : أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث وقالوا : أن كان موسى عرفة فقد استخف به , وأن كان لم يعرفه فكيف لم يقتص له من فقء عينه ؟!
   الجواب : أجاب عن هذه الشبهة الإمام ابن حجر فقال :
  أن الله لم يبعث ملك الموت لموسى وهو يريد قبض روحه حينئذ , وإنما بعثه إليه اختباراً , وإنما لطم موسى ملك الموت لأنه رأى آدميا دخل داره بغير إذنه , ولم يعلم أنه ملك الموت , وقد أباح الشارع فقء عين الناظر في دار المسلم بغير إذن , وقد جاءت الملائكة إلى إبراهيم وإلى لوط في صورة آدميين فلم يعرفاهم ابتداء , ولو عرفهم إبراهيم لما قدم لهم المأكول , ولو عرفهم لوط لما خاف عليهم من قومه .
  وعلى تقدير أن يكون عرفه فمن أين لهذا المبتدع مشروعية القصاص بين الملائكة والبشر , ثم من أين له أن ملك الموت طلب القصاص من موسى فلم يقتص له .
  ولخص الخطابي كلام ابن خزيمة وزاد فيه : أن موسى دفعه عن نفسه لما ركب فيه من الحدة , وأن الله رد عين ملك الموت ليعلم موسى أنه جاءه من عند الله فلهذا استسلم حينئذ .
  وقال النووي ـ رحمه الله ـ :  
  لا يمتنع أن يأذن الله لموسى في هذه اللطمة امتحاناً للملطوم , وقال غيره إنما لطمه لأنه جاء لقبض روحه من قبل أن يخيره لما ثبت أنه لم يقبض نبي حتى يخير , فلهذا لما خيره في المرة الثانية أذعن , وقيل : هذا أولى الأقوال بالصواب وفيه نظر , لأنه يعود أصل السؤال فيقال : لم أقدم ملك الموت على قبض نبي الله , وأخل بالشرط , فيعود الجواب أن ذلك وقع امتحاناً .
  وزعم بعضهم أن معنى قوله : " فقأ عينه " , أي أبطل حجته , وهو مردود بقوله في نفس الحديث : " فرد الله عينه " , وبقوله : " لطمه وصكه " , وغير ذلك من قرائن السياق .
  وقال ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ :
  إنما فقأ موسى العين التي هي تخييل وتمثيل , وليست عينا حقيقة , ومعنى رد الله عينه أي أعاده إلى خلقته الحقيقية , وقيل : على ظاهره , ورد الله إلى ملك الموت عينه البشرية ليرجع إلى موسى على كمال الصورة , فيكون ذلك أقوى في اعتباره , وهذا هو المعتمد , وجوز ابن عقيل أن يكون موسى أذن له أن يفعل ذلك بملك الموت , وأمر ملك الموت بالصبر على ذلك , كما أمر موسى بالصبر على ما يصنع الخضر . أ هـ .  50
         
الحديث الثامن
شبهة أن المسافر وحده شيطان
  عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال :
   قال رسول الله  :  " الراكب شيطان , والراكبان شيطانان , والثلاثة ركب " .  51
   الشبهة : كيف يوصف الراكب وحده ـ أي المسافر ـ بأنه شيطان ، ولقد كان كثير من الصحابة يركبون وحدهم ، دون أن يكون معهم أحد ؟!
    الجواب : قال أبو محمد ابن قتيبة  ـ رحمه الله ـ :
  ونحن نقول : إنه أراد بقوله " المسافر وحده شيطان " : معناه الوحشة بالانفراد وبالوحدة , لأن الشيطان يطمع فيه كما يطمع فيه اللصوص , ويطمع فيه السبع فإذا خرج وحده فقد تعرض للشيطان , وتعرض لكل عاد عليه من السباع أو اللصوص كأنه شيطان , ثم قال : والاثنان شيطانان لأن كل واحد منهما متعرض لذلك فهما شيطانان , فإذا تناموا ثلاثة زالت الوحشة ووقع الأنس , وانقطع طمع كل طامع فيهم .
  وكلام العرب إيماء وإشارة وتشبيه , يقولون : فلان طويل النجاد , والنجاد حمائل السيف , وهو لم يتقلد سيفاً قط , وإنما يريدون : أنه طويل القامة فيدلون بطول نجاده على طوله , لأن النجاد القصير لا يصلح على الرجل الطويل ويقولون : فلان عظيم الرماد , ولا رماد في بيته ولا على بابه وإنما يريدون أنه كثير الضيافة , فناره وارية ـ مشتعلة ـ أبداً , وإذا كثر وقود النار كثر الرماد , والله تعالى يقول في كتابه : { ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كنا يأكلان الطعام } , فدلنا بأكلهما الطعام على معنى الحدث , لأن من أكل الطعام فلا بد له من أن يُحدث .
  وقال تعالى حكاية عن المشركين في النبي  : { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } , فكنى بمشيه في الأسواق عن الحوائج التي تعرض للناس فيدخلون لها الأسواق , كأنهم رأوا أن النبي  إذا بعثه الله تعالى أغناه عن الناس وعن الحوائج إليهم .    52
  وقال الخطابي ـ رحمه الله ـ :
  معناه : أن التفرد والذهاب وحده في الأرض من فعل الشيطان , وهو شيء يحمله عليه الشيطان ويدعوه إليه , وكذلك الاثنان , فإذا صاروا ثلاثة فهو ركب أي : جماعة وصحب , قال : والمنفرد في السفر إن مات لم يكن بحضرته من يقوم بغسله ودفنه وتجهيزه , ولا عنده من يوصى إليه في ماله ويحمل تركته إلى أهله , ويورد خبره إليهم ولا معه في سفره من يعينه على الحمولة , فإذا كانوا ثلاثة تعاونوا وتناوبوا المهنة والحراسة , وصلوا الجماعة وأحرزوا الحظ فيها . أهـ .  53
  وقال الغزالي ـ رحمه الله ـ :
  المسافر لا يخلو عن رجل يحتاج إلى حفظه , وعن حاجة يحتاج إلى التردد فيها , ولو كانوا ثلاثة لكان المتردد في الحاجة واحداً , فيتردد في السفر بلا رفيق , فلا فيخلو عن ضيق القلب لفقد الأنيس , ولو تردد اثنان كان الحافظ للرحل وحده , فلا يخلو عن الخدر وعن ضيق القلب .
  وقال الطبري ـ رحمه الله ـ :
  هذا الزجر زجر أدب وإرشاد لما يخشى على الواحد من الوحشة والوحدة وليس بحرام , والحق أن الناس يتباينون في ذلك , فيحتمل أن يكون الزجر عنه لحسم المادة فلا يتناول ما إذا وقعت الحاجة لذلك , كإرسال الجاسوس والطليعة . أهـ .   54
  وقال القاضي ـ رحمه الله  ـ :
  سمي الواحد والاثنين شيطاناً لمخالفة النهي عن التوحد في السفر , والتعرض للآفات التي لا تندفع إلا بالكثرة , ولأن المتوحد بالسفر تفوت عنه الجماعة , ويعسر عليه التعيش , ولعل الموت يدركه فلا يجد من يوصي إليه بإيفاء ديون الناس وأماناتهم , وسائر ما يجب , أو بين على المحتضر أن يوصي به ولم يكن ثم من يقوم بتجهيزه ودفنه . أهـ .   55
         
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 6:01 pm

الحديث التاسع
شبهة الفواسق الخمس
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ :
عن النبي  أنه قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الحية والغراب الأبقع , والفارة , والكلب العقور , والحديا " . 56
 الشبهة : قالوا : إن الفسق والهدى لا يجوز على شيء من هذه الأشياء , حيث أن الجن والإنس فقط هم الذين يكون منهم الفسق والهداية !
 الجواب : قال أبو محمد ابن قتيبة :
لو نظرنا في اللغة لجاز لنا أن نسمي كل واحد من هذه فاسقاً , لأن الفسق الخروج على الناس , والإيذاء عليهم , يقال فسقت الرطبة : إذا خرجت عن قشرها , وكل خارج عن شئ فهو : فاسق , قال الله تعالى : { إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه } , أي : خرج عن أمر ربه وطاعته , فالحية تخرج على الناس من جحرها فتعبث بطعام الناس , وتنهش وتكرع في شرابهم وتمج فيه ريقها .
والفأرة أيضاً تخرج من جحرها فتفسد أطعمتهم , وتقرض ثيابهم , وتضرم بالأوساخ على أهل البيت بيتهم , ولا شئ من حشرات الأرض أعظم منها ضرراً .
والغراب يقع على داء البعير فينقره حتى يقتله , ولذلك تسميه العرب " ابن داية " , وينزع عن الخير , ويختلس أطعمة الناس .
والكلب يعقر ويجرح , وكذلك السباع العادية , وكل هذه قد يجوز أن تسمى فواسق لخروجها على الناس , واعتراضها بالمضار عليهم , فأين كانوا عن هذا المخرج إذ قبح عندهم أن ينسبوا شيئاً من هذه إلى طاعة أو معصية . 57
   

الحديث العاشر
عذاب القبر وسؤال الملكين
عن البراء بن عازب  قال :
خرجنا مع رسول الله  في جنازة رجل من الأنصار , فانتهينا إلى القبر و لم يلحد بعد , قال : فقعدنا حول النبي  فجعل ينظر إلى السماء و ينظر إلى الأرض ـ وفي رواية : وجلسنا حوله كأنما على رءوسنا الطير , وفي يده عود ينكت به في الأرض ـ و جعل يرفع بصره و يخفضه ثلاثاً ثم قال : " اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر " , ثم قال : " إن الرجل المسلم ـ وفي رواية المؤمن ـ إذا كان في إقبال من الآخرة , و انقطاع من الدنيا , جاء ملك الموت فقعد عند رأسه , و ينزل ملائكة من السماء كأن وجوههم الشمس , معهم أكفان من أكفان الجنة و حنوط من حنوط الجنة , فيقعدون منه مد البصر , قال : فيقول ملك الموت : أيتها النفس المطمئنة , أخرجي إلى مغفرة من الله و رضوان , قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء , فلا يتركونها في يده طرفة عين فيصعدون بها إلى السماء , فلا يمرون بها على جند من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة ؟ .
فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه , فإذا انتهى إلى السماء فتحت له أبواب السماء , ثم يشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي إلى السماء السابعة ثم يقال : اكتبوا كتابه في عليين , ثم يقال : ارجعوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم إني منها خلقتهم , و فيها أعيدهم , و منها أخرجهم تارة أخرى , فترد روحه إلى جسده فتأتيه الملائكة فيقولون من ربك ؟ .
قال : فيقول : الله .
فيقولون : ما دينك ؟ .
فيقول : الإسلام .
فيقولون : ما هذا الرجل الذي خرج فيكم ؟ .
قال : فيقول رسول الله .
قال : فيقولون و ما يدريك ؟ .
قال : فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به و صدقت .
قال : فينادي مناد من السماء أن صدق فأفرشوه من الجنة , و ألبسوه من الجنة , و أروه منزله من الجنة .
قال : و يمد له في قبره و يأتيه روح الجنة وريحها , قال : فيفعل ذلك به و يمثل له رجل حسن الوجه , حسن الثياب , طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد .
فيقول : من أنت فوجهك وجه يبشر بالخير ؟ .
قال : فيقول : أنا عملك الصالح , قال : فهو يقول : رب أقم الساعة , كي أرجع إلى أهلي و مالي ثم قرأ : { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ }.
وأما الفاجر ـ وفي رواية الكافر ـ : فإذا كان في قبل من الآخرة , وانقطاع من الدنيا أتاه ملك الموت فيقعد عند رأسه , و ينزل الملائكة سود الوجوه , معهم المسوح , فيقعدون منه مد البصر , فيقول ملك الموت : أخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سخط من الله و غضب , قال : فتفرق في جسده , فينقطع معها العروق و العصب , كما يستخرج الصوف المبلول بالسفود ذي الشعب .
قال : فيقومون إليه فلا يدعونها في يده طرفة عين , فيصعدون بها إلى السماء فلا يمرون على جند من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة ؟
قال : فيقولون : فلان بأقبح أسمائه .
قال : فإذا انتهى به إلى السماء غلقت دونه أبواب السماوات , قال : و يقال اكتبوا كتابه في سجين , قال : ثم يقال : أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم , و فيها أعيدهم , و منها أخرجهم تارة أخرى .
قال : فيرمى بروحه حتى تقع في جسده , قال : ثم قرأ { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } .
قال : فتأتيه الملائكة فيقولون : من ربك ؟
قال : فيقول : لا أدري ـ وفي رواية : فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولون له : لا دريت ولا تليت ـ فينادي مناد من السماء : أن قد كذب فأفرشوه من النار , وألبسوه من النار , و أروه منزله من النار , فيضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه .
قال : و يأتيه ريحها و حرها , قال : فيفعل به ذلك , و يمثل له رجل قبيح الوجه , قبيح الثياب , منتن الريح , فيقول : أبشر بالذي يسؤك هذا يومك الذي كنت توعد .
قال : فيقول : من أنت , فوجهك الوجه يبشر بالشر ؟ .
قال : فيقول : أنا عملك الخبيث .
قال : و هو يقول : رب لا تقم الساعة " .
وفي رواية : " فيقول أنا عملك الخبيث ، فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئاً عن طاعة الله ، سريعاً إلى معصية الله , فجزاك الله شراً ، ثم يقيض له أعمي أصم أبكم ، في يده مرزبة! لو ضرب بها جبل كان تراباً ، فيضربه ضربه يسمعه كل شئ إلا الثقلين ، ثم يفتح له باب من النار ، ويمهد من فرش النار فيقول : رب لا تقم الساعة " . 58
 الشبهة : أورد هذه الشبهة الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ فقال على لسان من يشكك في عذاب القبر ونعيمه وما يتعلق به : فإنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة عمياً صماً يضربون الموتى بمطارق من حديد , ولا نجد هناك حيات ولا ثعابين ولا نيراناً تأجج , ولو كشفنا حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير , ولو وضعنا على عينيه الزئبق , وعلى صدره الخردل , لوجدناه على حاله , وكيف يفسح مد بصره أو يضيق عليه , ونحن نجده بحاله , ونجد مساحته على حد ما حفرناها لم يزد ولم ينقص , وكيف يسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه .
ثم قال إخوانهم من أهل البدع والضلال : وكل حديث يخالف مقتضى العقول والحس يقطع بتخطئة قائله , قالوا : ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل ولا يجيب ولا يتحرك ولا يتوقد جسمه ناراً , ومن افترسته السباع , ونهشته الطيور , وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع , وحواصل الطيور , وبطون الحيتان , ومدارج الرياح , كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه , وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة , أو حفرة من حفر النار , وكيف يضيق عليه حتى تلتئم أضلاعه ؟!
 والجواب : ثم أجاب ـ رحمه الله ـ علي هذه الشبهة فقال :
ونحن نذكر أموراً يعلم بها الجواب :
الأمر الأول : أن يعلم أن الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته , بل أخبارهم قسمان :
أحدهما : ما تشهد به العقول والفطر .
الثاني : مالا تدركه العقول بمجردها , كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر , وتفاصيل الثواب والعقاب , ولا يكون خبرهم محالاً في العقول أصلاً , وكل خبر يظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين : أما يكون الخبر كذباً عليهم , أو يكون ذلك العقل فاسداً , وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقول صريح , قال تعالى : { ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل اليك من ربك هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميد } , وقال تعالى : { أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } , وقال تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه } , والنفوس لا تفرح بالمحال , وقال تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } , والمحال لا يشفي ولا يحصل به هدى ولا رحمة ولا يفرح به , فهذا أمر من لم يستقر في قلبه خير , ولم يثبت له على الإسلام قدم , وكان أحسن أحواله الحيرة والشك .
الأمر الثاني : أن يفهم عن الرسول  مراده من غير غلو ولا تقصير , فلا يحمل كلامه مالا يحتمله , ولا يقصر به عن مراده , وما قصده من الهدى والبيان .
وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب وما لا يعلمه إلا الله , بل سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام , بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع , ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد , فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده , وسوء القصد من التابع فيا محنة الدين وأهله والله المستعان .
وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية والرافضة وسائر الطوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن الله ورسوله , حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الإفهام , والذي فهمه الصحابة ومن تبعهم عن الله ورسوله فمهجور لا يلتفت إليه , ولا يرفع هؤلاء به رأسا , ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها , فإنا لو ذكرناها لزادت على عشرة ألوف , حتى أنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن الله ورسوله ومراده كما ينبغي في موضع واحد .
وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه على ما جاء به الرسول  , وأما من عكس الأمر بعرض ما جاء به الرسول  على ما اعتقده وانتحله وقلد فيه من أحسن به الظن فليس يجدي الكلام معه شيئاً , فدعه وما اختاره لنفسه , ووله ما تولى واحمد الذي عافاك مما ابتلاه به .
الأمر الثالث : إن الله سبحانه جعل الدور ثلاثاً : دار الدنيا , ودار البرزخ , ودار القرار , وجعل لكم دار أحكاماً تختص بها , وركب هذا الإنسان من بدن ونفس , وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها , ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح , وإن أضمرت النفوس خلافه .
وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعاً لها , فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها , والتذت براحتها , وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم , فالأبدان هنا ظاهرة , والأرواح خفية , والأبدان كالقبور لها , والأرواح هناك ظاهرة , والأبدان خفية في قبورها تجرى أحكام البرزخ على الأرواح فتسرى إلى أبدانها نعيماً أو عذاباً , كما تجرى أحكام الدنيا على الأبدان فتسرى إلى أرواحها نعيماً أو عذاباً , فأحط بهذا الموضع علماً واعرفه كما ينبغي , يزيل عنك كل إشكال يورد عليك من الداخل والخارج .
وقد أرانا الله سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجاً في الدنيا من حال النائم , فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجرى على روحه أصلاً , والبدن تبع له , وقد يقوى حتى يؤثر ي البدن تأثيرا مشاهداً , فيرى النائم في نومه أنه ضرب فيصبح وأثر الضرب في جسمه , ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه , ويذهب عنه الجوع والظمأ.
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان , وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك , وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه , ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس , فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع , فهكذا في البرزخ بل أعظم , فإن تجرد الروح هنالك أكمل وأقوى وهى متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع , فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهراً بادياً أصلاً .
ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه , وضيقه وسعته , وضمه وكونه حفرة من حفر النار , أو روضة من رياض الجنة مطابق للعقل , وأنه حق لا مرية فيه , وإن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه , كما قيل :
وكم من عائب قولاً صحيحـــــاً وآفته من الفهم السقيــــــــــــــــــــم
وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد , وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه , وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه , وليس عند أحدهما خبر عند الآخر فأمر البرزخ أعجب من ذلك. 59
   

الحديث الحادي عشر
شبهة محاولة النبي  الانتحار
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت :
" أول ما بدئ به رسول الله  من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم , فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح , فكان يأتي حراء فيتحنث فيه , وهو التعبد الليالي ذوات العدد , ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده لمثلها حتى فجئه الحق وهو في غار حراء , فجاءه الملك فيه فقال : اقرأ , فقال النبي  : " فقلت : ما أنا بقارئ , فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد , ثم أرسلني فقال : اقرأ , فقلت : ما أنا بقارئ , فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني , فقال : اقرأ , فقلت : ما أنا بقارئ , فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني , فقال : { اقرأ باسم ربك الذي خلق - حتى بلغ - علم الإنسان ما لم يعلم } " , فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : " زملوني زملوني " , فزملوه حتى ذهب عنه الروع , فقال : " يا خديجة ما لي " , وأخبرها الخبر وقال : " قد خشيت على نفسي " فقالت له : كلا , أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا , إنك لتصل الرحم , وتصدق الحديث , وتحمل الكل , وتقري الضيف , وتعين على نوائب الحق .
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد ابن عبد العزى بن قصي , وهو ابن عم خديجة أخي أبيها , وكان امرأ تنصر في الجاهلية , وكان يكتب الكتاب العربي فيكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب , وكان شيخاً كبيراً قد عمي , فقالت له خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك , فقال ورقة ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره النبي  ما رأى , فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى , يا ليتني فيها جذعاً , أكون حيا حين يخرجك قومك .
فقال رسول الله  : " أو مخرجي هم " , فقال ورقة : نعم , لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي , وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا .
ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة , حتى حزن النبي  فيما بلغنا حزناً : غدا منه مراراً كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال , فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقاً , فيسكن لذلك جأشه , وتقر نفسه فيرجع , فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك , فإذا أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له مثل ذلك " . 60
 الشبهة : قد ورد في هذا الحديث أن النبي  لما فتر عنه الوحي كان يصعد فوق روؤس الجبال لكي يلقى نفسه من فوقها من شدة الحزن والجزع على انقطاع الوحي , فهل كان النبي  يحاول الانتحار ؟!
 والجواب : الحق الذي يجب أن يقال أن هذه الرواية التي استندتم إليها يا خصوم الإسلام ليست صحيحة , رغم ورودها في صحيح البخاري ـ رحمه الله ـ لأنه أوردها لا على أنها واقعة صحيحة ، ولكن أوردها تحت عنوان : " البلاغات " يعنى : أنه بلغه هذا الخبر مجرد بلاغ .
ومعروف أن البلاغات في مصطلح علماء الحديث : " إنما هي مجرد أخبار وليست أحاديث صحيحة السند أو المتن " . 61
وقد علق الإمام ابن حجر العسقلاني فقال :
" إن القائل : بلغنا كذا هو الزهري ، وعنه حكى البخاري هذا البلاغ ، وليس هذا البلاغ موصولاً برسول الله  ، وقال الكرمانى : وهذا هو الظاهر " . 62
وهذا هو الصواب ، وحاش أن يقدم رسول الله ـ وهو إمام المؤمنين ـ على الانتحار ، أو حتى على مجرد التفكير فيه .
وعلى كلٍ فإن محمداً  كان بشراً من البشر , ولم يكن ملكاً ولا مدعيًا للألوهية .
والجانب البشرى فيه يعتبر ميزة كان  يعتني بها ، وقد قال القرآن الكريم في ذلك : { قل سبحان ربى هل كنت إلا بشراً رسولاً } الإسراء : 93 .
ومن ثم فإذا أصابه بعض الحزن أو الإحساس بمشاعر ما نسميه - في علوم عصرنا - بالإحباط أو الضيق , فهذا أمر عادى لا غبار عليه , لأنه من أعراض بشريته  .
وحين تأخر الوحي بعد أن تعلق به الرسول  كان يذهب إلى المكان الذي كان ينزل عليه الوحي فيه يستشرف لقاء جبريل ، فهو محب للمكان الذي جمع بينه وبين حبيبه بشىء من بعض السكن والطمأنينة ، فماذا في ذلك أيها الظالمون دائماً لمحمد  في كل ما يأتي وما يدع ؟ .
وإذا كان أعداء محمد  يستندون إلى الآية الكريمة : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } . الشعراء : 3 .
فالآية لا تشير أبداً إلى معنى الانتحار ، ولكنها تعبير أدبي عن حزن النبي محمد  بسبب صدود قومه عن الإسلام ، وإعراضهم عن الإيمان بالقرآن العظيم , فتصور كيف كان اهتمام الرسول الكريم  بدعوة الناس إلى الله ، وحرصه الشديد على إخراج الكافرين من الظلمات إلى النور .
وهذا خاطر طبيعي للنبي الإنسان البشر الذي يعلن القرآن على لسانه  اعترافه واعتزازه بأنه بشر في قوله - رداً على ما طلبه منه بعض المشركين-{ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً * أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً * أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً أو تأتى بالله والملائكة قبيلاً * أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه } , فكان رده { سبحان ربى } , متعجباً مما طلبوه ومؤكداً أنه بشر لا يملك تنفيذ مطلبهم : { هل كنت إلا بشراً رسولاً } . الإسراء : 93 . 63
   


الحديث الثاني عشر
سحر النبـــــــــــــي 
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :
" سحر رسول الله  رجل من بني زريق , يقال له : لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله  يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله , حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي لكنه دعا ودعا ثم قال : " يا عائشة أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه , أتاني رجلان , فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ فقال : مطبوب , قال : من طبه ؟ قال لبيد بن الأعصم , قال : في أي شيء ؟ قال : في مشط ومشاطة , وجف طلع نخلة ذكر , قال : وأين هو ؟ قال في بئر ذروان " .
فأتاها رسول الله  في ناس من أصحابه فجاء فقال : " يا عائشة كأن ماءها نقاعة الحناء , أو كأن رؤوس نخلها رؤوس الشياطين " .
قلت : يا رسول الله أفلا استخرجته ؟ قال : " قد عافاني الله فكرهت أن أثور على الناس فيه شرا " , فأمر بها فدفنت . 64
 الشبهة : هذا الحديث من الأحاديث التي كانت محل جدل عند البعض ، وأثيرت حولها العديد من الشبهات في القديم والحديث , مع أنها أحاديث صحيحة ثابتة بل في أعلى درجات الصحة ، ولا مطعن فيها بوجه من الوجوه ، فقد اتفق على إخراجها البخاري و مسلم ، ورواها غيرهما من أصحاب كتب الحديث كالإمام أحمد و ابن ماجه وغيرهم ، وإليك بيان روايات الحديث وما أثير حولها من شبهات وبيان وجه الحق في ذلك .
وما أثير حول هذا الحديث من شبه ليست جديدة في الحقيقة ، وإنما هي شبه قديمة أثارها أهل الزيغ والابتداع من قديم الزمان ، ورددها من جاء بعدهم ، فقد ذكر الإمام ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ في كتابه " تأويل مختلف الحديث " هذه الحديث من ضمن الأحاديث التي طعن فيها النظام وأمثاله من أئمة الاعتزال الذين لا يقيمون وزناً للأحاديث والسنن .
وزعم الجصاص أنه من وضع الملحدين ، وادعى أبو بكر الأصم أنه متروك ومخالف لنص القرآن .
ثم جاء بعض المعاصرين فتلقفوا هذه الآراء ، ورددوها تحت مسمى تحكيم العقل ، وطرح كل ما يتعارض مع مسلماته وثوابته ، ويمكن تلخيص الشبه المثارة حول الحديث في ثلاثة أمور .
الأول : أن الحديث وإن رواه البخاري و مسلم فهو حديث آحادي ، لا يؤخذ به في العقائد ، وعصمة النبي  من تأثير السحر في عقله ، عقيدة من العقائد فلا يؤخذ في إثبات ما يخالفها إلا باليقين كالحديث المتواتر ، ولا يكتفي في ذلك بالظن .
والثاني : أن الحديث يخالف القرآن الكريم الذي هو متواتر ويقيني ، في نفي السحر عن النبي  ، فالقرآن نعى على المشركين ووبخهم على نسبتهم إثبات السحر إلى النبي  فقال سبحانه : { وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } الفرقان 8 - 9 ، وقال جل وعلا : { نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا } الإسراء 47 – 48 .
الثالث : أنه لو جاز على النبي  أن يتخيل أنه يفعل الشيء وما فعله ، لجاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئًا وهو لم يبلغه ، أو أن شيئًا ينزل عليه ولم ينزل عليه وهو أمر مستحيل في حقه  لأنه يتنافى مع عصمته في الرسالة والبلاغ .
 الجواب : أما القول الأول : فإن ما تعرض له النبي  من سحر ، هو مرض من الأمراض ، وعارض من العلل ، وهذه تجوز على الأنبياء كغيرهم من البشر ، وهي مما لا يُنكر ولا يقدحُ في النبوة ، ولا يُخِل بالرسالة أو الوحي والله سبحانه إنما عصم نبيه  مما يحول بينه وبين الرسالة وتبليغها ، وعصمه من القتل ، دون العوارض التي تعرض للبدن .
وهذا مذهب : المازري 65 ، وابن القيم ، والعيني 66 ، والسندي 67، وابن باز ـ رحمه الله عليهم ـ . 68
وحكاه القاضي عياض حيث قال : " و أما ما و رد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء و لا يفعله ، فليس في هذا ما يُدْخِلُ عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته ، أو يقدح في صدقه ، لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا ، و إنما هذا فيما يجوز طروة عليه في أمر دنياه ، التي لم يُبعث بسببها و لا فضل من أجلها ، و هو فيها للآفات كسائر البشر ، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ، ثم ينجلي عنه كما كان ، و لم يأت في خبر أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ما كان أخبر أنه فعله و لم يفعله ، و إنما كانت خواطر و تخيلات " . 69
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
" السحر الذي أصابه  كان مرضاً من الأمراض عارضاً شفاه الله منه ، ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما , فإن المرض يجوز على الأنبياء ، وكذلك الإغماء , فقد أغمي عليه  في مرضه 70 ، ووقع حين انفكت قدمه ، وجُحِشَ شِقه ، وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ، ونيل كرامته ، وأشد الناس بلاءً الأنبياء ، فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به ، من القتل والضرب والشتم والحبس ، فليس بِبدْع أن يُبتلى النبي  من بعض أعدائه بنوع من السحر , كما ابتلي بالذي رماه فشجه ، وابتلي بالذي ألقى على ظهره السلا ـ أمعاء الناقة ـ وهو ساجد وغير ذلك ، فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله " . 71

القول الثاني : أن السحر إنما تسلط على ظاهره و جوارحه ، لا على قلبه و اعتقاده و عقله ، ومعنى الآية عصمة القلب والإيمان ، دون عصمة الجسد عما يرد عليه من الحوادث الدنيوية .
وهذا اختيار القاضي عياض ، وابن حجر الهيتمي . 72
القول الثالث : أن ما روي من أن النبي  سُحِرَ , باطل لا يصح ، بل هو من وضع الملحدين . وهذا مذهب المعتزلة . 73
واختيار الجصاص حيث قال : " زعموا أن النبي  سُحر وأن السحر عمل فيه ، ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين ، تلعباً بالحشو الطغام ، واستجراراً لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام ، والقدح فيها وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة , وأن جميعه من نوع واحد ، والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام وإثبات معجزاتهم , وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى : { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } طه : 69 ، فصدق هؤلاء من كذبة الله , وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله.
وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك ظناً منها بأن ذلك يعمل في الأجساد , وقصدت به النبي  , فأطلعَ الله نبيه على موضع سرها ، وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت , ليكون ذلك من دلائل نبوته , لا أن ذلك ضَره وخلط عليه أمره ، ولم يقل كلُ الرواة إنه اختلط عليه أمره , وإنما هذا اللفظ زيدَ في الحديث ولا أصل له " . 74
وحجة هؤلاء أن القول بأن النبي  سُحر يلزم منه :
1- إبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها .
2- ويلزم منه الخلط بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة .
3- ويلزم منه أن يكون تصديقاً لقول الكفار{ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا } الفرقان : 8 ، وقال قوم صالح له : { إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ } الشعراء : 153 ، وكذا قال قوم شعيب له .
4- قالوا : والأنبياء لا يجوز عليهم أن يُسحروا ، لأن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم . 75
وأجابوا عن حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ والذي فيه أن النبي  سُحر بأنه مما تفرد به هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , وأنه غلطَ فيه ، واشتبه عليه الأمر. 76
وأجيب عنه :
1- بأن قوله تعالى : { إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا} ، وقوله :{ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} , المراد به : من سُحر حتى جُن وصار كالمجنون الذي زال عقله , إذ المسحور الذي لا يُتبع هو من فسد عقله بحيث لا يدري ما يقول , فهو كالمجنون ، ولهذا قالوا فيه :{ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } الدخان : 14 ، وأما من أصيب في بدنه بمرض من الأمراض التي يصاب بها الناس ؛ فإنه لا يمنع ذلك من إتباعه ، وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان ، وإنما قذفوهم بما يُحَذرون به سفهاءهم من أتباعهم ، وهو أنهم قد سحروا حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون بمنزلة المجانين ، ولهذا قال تعالى : { انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } الإسراء : 48.
2- وأما قولهم : إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله تعالى لهم , فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم , فإنه يبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم , ليستوجبوا كمال كرامته ، وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس ، فإنهم إذا رأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم . 77
3- وأما قولهم : بأن حديث عائشة هو مما تفرد به هشام بن عروة , فجوابه أن ما قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم , فإن هشاماً من أوثق الناس وأعلمهم ، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه ، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث ، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة ، والقصة مشهورة عند أهل التفسير ، والسنن والحديث ، والتاريخ والفقهاء ، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله  وأيامه من غيرهم .
   

الحديث الثالث عشر
تحريم الحرير والذهب على الرجال
عن علي بن أبي طالب  قال :
أخذ رسول الله  حريراً بشماله وذهباً بيمينه ثم رفع بهما يديه فقال : " إن هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم " . 78
 الشبهة : لماذا حرم الإسلام لبس الحرير والذهب على الرجال ؟!
 الجواب : يعتمد القول بتحريم لبس الحرير والتختم بالذهب للرجال في الإسلام على العديد من المرويات عن النبي  كما ذهب إلى ذلك جمهور العلماء , وتتلخص وجهة نظرهم في : أن من طبيعة الرجل الصلابة والقوة والإسلام يريد أن يتربى الرجال بعيدًا عن مظاهر الضعف ، وبعيدًا أيضًا عن مظاهر الترف الذي يحاربه الإسلام , ويعده مظهرًا من مظاهر الظلم الاجتماعي ، وذلك حتى يكون الرجل قادرًا على الكفاح والانتصار في معارك الحياة , وميادين القتال أيضًا إذا اقتضى الأمر .
ولما كان التزين بالذهب وارتداء الحرير يُعدان من مظاهر الترف فقد حرمهما الإسلام على الرجال , ولكنه أباحهما للمرأة مراعاة لمقتضى أنوثتها وما فطرت عليه من حب للزينة . 79
وعلى الرغم من هذا التحريم فإنه إذا كانت هناك ضرورة صحية تقضى بلبس الرجل للحرير فإن الإسلام يبيح له ذلك ولا يمنعه , فقد أذن النبي  لكل من عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير لأنهما كانا يشكوان من حكة في جسمهما . 80
وقد ذهب الإمام الشوكانى المتوفى ( 1840م ) : إلى القول بأن أحاديث النبي  في النهى عن لبس الحرير تدل على الكراهية فقط وليس على التحريم والكراهية هنا درجة أخف من التحريم , ويقوى الشوكانى رأيه هذا بأن هناك ما لا يقل عن عشرين صحابيا منهم أنس والبراء بن عازب قد لبسوا الحرير.
ومن غير المعقول أن يقدم هؤلاء الصحابة على ما هو محرم ، كما يبعد أيضًا أن يسكت عنهم سائر الصحابة وهم يعلمون تحريمه . 81
أما التختم بالذهب , أي : اتخاذه كخاتم ونحوه للرجال فقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريمه أيضًا اعتمادًا على بعض الأحاديث النبوية , ولكن هناك جماعة من العلماء ذهبوا إلى القول بكراهة التختم بالذهب للرجال كراهة تنزيه فقط , وكراهة التنزيه بعيدة عن التحريم وقريبة من الإباحة أو الجواز ، واعتمدوا في ذلك أيضًا على أن هناك عددًا من الصحابة قد تختموا بالذهب منهم سعد بن أبى وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وصهيب ، وحذيفة ، وجابر بن سمرة , الذين فهموا أن النهى للتنزيه وليس للتحريم . 82


الحديث الرابع عشر
كل مولود يولد يطعنه الشيطان
عن أبي هريرة  قال :
أن النبي  قال : " كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم , ذهب يطعن فطعن في الحجاب " . 83
 الشبهة : قد تعرض هذا الحديث للانتقاد من قبل البعض قديماً وحديثاً ، حيث نسجوا حوله العديد من الشُبه والشكوك التي توجب رده وعدم قبوله بزعمهم ، فادعى بعضهم بأنه من الإسرائيليات ! لأنه يقتضي تفضيل نبي الله عيسى على نبينا محمد عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ، ولذلك اتكأ عليه بعض القسس من النصارى لإثبات عقيدة من عقائدهم الزائفة .
كما أنه يقتضي أن الشيطان قد يسلط على الأنبياء والرسل حتى أولي العزم منهم ، وعليه يكون نبينا  ممن طعن الشيطان في جنبيه ، كما أنه قد يسلط على غيرهم من عباد الله المخلصين ، وهو ما ينفيه القرآن صراحة ، وذلك في قوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } الحجر : 42 .
ثم ما هو سر اختصاص عيسى  وأمه بهذه الفضيلة دون سائر الناس حتى الأنبياء ، وقد استدلوا على ذلك بكلام نقله عن الزمخشري ، و الرازي.
 الجواب : أما الحديث من حيث النقل والسند فالحديث أخرجه البخاري و مسلم وغيرهما من أئمة الحديث ، وتلقته الأمة بالقبول ، ولم يعرف من طعن فيه من أئمة هذا الشأن ، وأما من حيث المتن والمعنى فليس في متنه أي معنى يدعو إلى رده أو التوقف فيه ، كل ما هنالك أنه وُجد من توهم معنى فاسداً بحسب فهمه فبادر إلى إنكاره أو التوقف في صحة الحديث ومن هؤلاء القاضي عبد الجبار المعتزلي ، و الزمخشري , وإن كان الثاني تردد في صحة الحديث وحاول تأويله فقال : " إن صح هذا الحديث ، فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين ، وكذلك من كان في صفتهما ، لقوله تعالى : { إلا عبادك منهم المخلصين } , واستهلال الصبي صارخاً من مس الشيطان ، تخييل لطمعه فيه ، كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ، ويقول هذا ممن أغويه ، وأما صفة النخس كما يتوهمه أهل الحشو فلا ، ولو ملك إبليس على الناس نخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً " .
وأهل العلم أجروا الحديث على ظاهره ، وقالوا بحقيقته ، وأن إبليس مُمكن من مس كل مولود عند ولادته ، وأنه حاول ذلك مع مريم وابنها فلم يمكن منهما استجابة لدعاء أم مريم حين قالت : { وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } آل عمران : 36 .
وليس في إثبات هذه الخصوصية لعيسى وغيره ما يعود بالنقص على بقية الأنبياء ، ولا ما يقتضي تفضيله عليهم ، لأن الفضل الذي يعد كمالاً تاماً للإنسان ، هو ما كـان بسعيه واجتهاده ، ومن هنا كان فضل الخليلين إبراهيم و محمد عليهما وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام ، وأما طعن الشيطان بيده فليس من شأنه أن يثاب العبد على سلامته منه ، ولا أن يعاقب على وقوعه له وعلى التسليم بأن هذه فضيلة لعيسى  فنحن جميعاً نقر بأن المفضول قد يكون فيه من الخصائص والمزايا ما ليس للفاضل ، ولا يؤثر ذلك في أفضليته.
وأما إذا قلنا بأن الكلام هنا ليس على عمومه ، وأن المتكلم غير داخل في عموم كلامه - كما قال جمع من العلماء منهم الألوسي في تفسيره 84, فيكون نبينا عليه ممن لم يمسه الشيطان أيضاً ، وقد اختار القاضي عياض كما نقله عنه النووي : أن جميع الأنبياء يتشاركون في هذه الخصيصة . 85
وأياً ما كان الأمر فليس في الحديث أبداً ما يقتضي تفضيل عيسى  على نبينا محمد  تفضيلاً مطلقاً ، وكون بعض القسس والرهبان اتكأوا على الحديث في إثبات عقيدة من عقائدهم الزائفة ، فلا يعود ذلك على الحديث بالبطلان أو الرد ، والتبعة واللوم إنما تقع على من حرف الحديث عن مواضعه ، وحمله على غير محامله الصحيحة .
ونحن عندما نقول بظاهر الحديث ينبغي أن نفرق بين المس وبين الإغواء والإضلال ، فلا يلزم من وقوع المس والنخس إضلال الممسوس وإغواؤه حتى يقال إن الحديث معارض لقوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } الحجر : 42، وقوله : { إلا عبادك منهم المخلصين } الحجر : 40 لأنه يفيد عدم تسلط الشيطان على الأنبياء والمُخْلَصين .
فإن الآية إنما تدل على عدم تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال الدائم ، ومع ذلك فقد يسلط على بعضهم بإغواء عارض ، أو إلحاق ضرر لا يؤثر على الدين ، وكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والأذية .
قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ :
" ولا يلزم من هذا أن نخس الشيطان يلزم منه إضلال الممسوس وإغواؤه فإن ذلك ظن فاسد ، فكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والإغواء , ومع ذلك فعصمهم الله مما يرومه الشيطان ، كما قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } الحجر: 42 .
هذا مع أن كل واحد من بني آدم قد وكل به قرينه من الشياطين ، كما قال رسول الله  , فمريم وابنها وإن عصما من نخسه , فلم يعصما من ملازمته لهما ومقارنته , والله أعلم . أ هـ " . 86
وماذا يقول هذا المنكر فيما أثبته الله في كتابه عن نبي الله موسى  وقوله بعد أن قتل القبطي : { قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } القصص 15- 16. ومن قبله أيوب حين نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب وقول الله تعالى لنبيه محمد  : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم * إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } الأعراف 199 ـ 201.
ونبينا  عرض له الشيطان ليقطع صلاته فأمكنه الله منه ، فرده الله خاسئاً كما في الصحيح ، وأخبر أنه ما منا من أحد إلا وقد وُكل به قرينه من الجن ، حتى هو نفسه  إلا أن الله أعانه عليه فأسلم كما ورد في الصحيح .
والمقصود أن القرآن والسنة أثبت شيئاً من تعرض الشيطان للأنبياء والمخلصين بأنواع الأذى وأما الزيغ والإضلال فقد عصمهم الله منه .
ولا يلزم أن تمتلئ الدنيا صراخاً ونحيباً - كما توهم الزمخشري - لأن الحديث إنما جعل ذلك عند الولادة فحسب , ولم يجعله مستمراً مدى الحياة ، والتجربة والمشاهدة خير حكم وبرهان ، فما من مولود إلا ويستهل صارخاً وباكياً تصديقاً لهذا الحديث ، وإنكار ذلك مكابرة .
فعلم من ذلك أنه لا إشكال أبداً حول الحديث لا من حيث النقل والسند ، ولا من حيث المتن والمعنى ، وأن الإشكال إنما أتى من الفهم السقيم ، والرأي غير المستقيم . والله أعلم .
   

الحديث الخامس عشر
شبهة غسل اليد بعد الاستيقاظ من النوم
عن أبي هريرة  قال :
أن رسول الله  قال : " إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه , ثم لينثر , ومن استجمر فليوتر , وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه , فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " . 87
 الشبهة : قالوا : كيف يقال هذا ، وما منا أحد إلا وقد باتت يده حيث بات بدنه ، وحيث باتت رجله وأذنه وأنفه وسائر أعضائه , وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه في نومه , ولو أن رجلاً مس فرجه في يقظته لما نقض ذلك طهارته , فكيف بأن يمسه وهو لا يعلم , والله لا يؤاخذ الناس بما لا يعلمون فإن النائم قد يهجر في نومه فيطلق , ويكفر , ويفتري , ويحتلم على امرأة جاره , وهو عند نفسه في نومه زان , ثم لا يكون بشئ من ذلك مؤاخذاً في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة ؟!
 والجواب : قال أبو محمد ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ :
ونحن نقول : إن هذا المتكلم قد علم شيئاً , وغابت عنه أشياء , أما علم أن كثيراً من أهل الفقه قد ذهبوا إلى أن الوضوء يجب من مس الفرج في المنام واليقظة بهذا الحديث , وبالحديث الآخر : " من مس فرجه فليتوضأ " , وإن كنا نحن لا نذهب إلى ذلك , ونرى أن الوضوء الذي أمر به من مس فرجه غسل اليد , لأن الفروج مخارج الحدث والنجاسات , وكذلك الوضوء عندنا مما مست النار : إنما هو غسل اليد من الزهم والأطبخة والشواء , وقد بينا ذلك في غير موضع وأتينا بالدلائل عليه , فإذا كان الوضوء من مس الفرج هو غسل اليدين تبين أن رسول الله  أمر المستيقظ من منامه أن يغسل يده قبل أن يدخلها الإناء , لأنه لا يدري أين باتت يده , يقول : لعله في منامه مس بها فرجه أو دبره , وليس يؤمن أن يصيب يده بعض بول , أو بقية مَنِي , إن كان جامع قبل المنام , فإذا أدخلها في الإناء قبل أن يغسلها أنجس الماء وأفسده.
وخص النائم بهذا لأن النائم قد تقع يده على هذه المواضع , وعلى دبره وهو لا يشعر , فأما اليقظان فإنه إذا لمس شيئاً من هذه المواضع فأصاب يده منه أذى علم به ولم يذهب عليه , فغسلها قبل أن يدخلها في الإناء أو يأكل أو يصافح . 88
   

الحديث السادس عشر
لا يدخل الجنة ولد زنية
عن عبد الله بن عمرو  قال :
عن النبي  قال : " لا يدخل الجنة ولد زنية , ولا منان , ولا عاق , ولا مدمن خمر" . 89
 الشبهة : قالوا : وما الذي فعله هذا الابن حتى لا يدخل الجنة , والله تعالى يقول : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } .
 الجواب : قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ :
أريد بهذا الحديث : من تحقق بالزنا حتى صار غالباً عليه , فاستحق بذلك أن يكون منسوباً إليه , فيقال : هو ابن له , كما ينسب المتحققون بالدنيا إليها ، فيقال لهم : بنو الدنيا لعملهم لها وتحققهم بها وتركهم ما سواها .
وكما قد قيل للمتحقق بالحذر : ابن أحذار , وللمتحقق بالكلام : ابن أقوال وكما قيل للمسافر : ابن سبيل .
وكما قيل للمقطوعين عن أموالهم لبعد المسافة بينهم وبينها : أبناء السبيل كما قال تعالى في أصناف أهل الزكاة : { إنما الصدقات للفقراء } حتى ذكر فيهم ابن السبيل .
وكما قال بدر بن حزاز للنابغة : أبلغ زياداً وخير القول أصدقه , فلو تكيس أو كان ابن أحذار , أي : لو كان حذراً وذا كيس .
وكما يقال : فلان ابن مدينة , للمدينة التي هو متحقق بها , ومنه قول الأخطل :
ربت وربا في حجرها ابن مدينة يظل على مسحاته يتركل
فمثل ذلك ابن زنية , قيل لمن قد تحقق بالزنا حتى صار بتحققه به منسوباً إليه , وصار الزنا غالباً عليه أنه لا يدخل الجنة بهذه المكان التي فيه , ولم يرد به من كان ليس من ذوي الزنا الذي هو مولود من الزنا , وهذا أشبه بمعنى هذا الحديث للمعاني التي ذكرناها في مثله في الباب الذي قبل هذا الباب , وقد روي هذا الحديث بغير هذا اللفظ فمر فيه مكان ابن زنية ولد زنية .
ففيما روينا في هذا الفصل من هذه الأحاديث ما دل أنه قد يقال : ولد زنية للمتحقق بالزنا , كما يقال ابن زنية للمتحقق بالزنا , وإذا كان ذلك كذلك كان ما في حديث أبي هريرة الذي رويناه في هذا الباب الذي قبل هذا الباب من قول النبي : " ولد الزنا شر الثلاثة " , يحتمل أن يكون على من يغلب الزنا عليه فيكون بذلك شراً ممن سواه ممن ليس كذلك . أهـ . 90
   

الحديث السابع عشر
اهتزاز العرش لسعد بن معاذ
عن جابر بن عبد الله  قال :
قال رسول الله  وجنازة سعد بن معاذ بين أيديهم : " اهتز لها عرش الرحمن " . 91
 الشبهة : قالوا : كيف يتحرك عرش الله تعالى لموت أحد , وإن كان هذا جائزاً فالأنبياء أولى به , وكيف يتحرك العرش لموت من يعذبه الله تعالى ويضم عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه , وكيف يعذب من يغسله سبعون ألف ملك كما جاء في رواية أخرى للحديث ؟!
 والجواب : قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ :
" اختلف العلماء في تأويله ، فقالت طائفة : هو على ظاهره ، واهتزاز العرش تحركه فرحاً بقدوم روح سعد ، وجعل الله تعالى في العرش تمييزاً حصل به هذا ، ولا مانع منه ، كما قال تعالى : { وإن منها لما يهبط من خشية الله } وهذا القول هو ظاهر الحديث ، وهو المختار .
وقال المازري : قال بعضهم : هو على حقيقته ، وأن العرش تحرك لموته . قال : وهذا لا ينكر من جهة العقل , لأن العرش جسم من الأجسام يقبل الحركة والسكون , قال : لكن لا تحصل فضيلة سعد بذلك ، إلا أن يقال : إن الله تعالى جعل حركته علامة للملائكة على موته .
وقال آخرون : المراد اهتزاز أهل العرش ، وهم حملته ، وغيرهم من الملائكة ، فحذف المضاف ، والمراد بالاهتزاز : الاستبشار والقبول ، ومنه قول العرب : فلان يهتز للمكارم ، لا يريدون اضطراب جسمه وحركته ، وإنما يريدون ارتياحه إليها ، وإقباله عليها .
وقال الحربي : هو كناية عن تعظيم شأن وفاته , والعرب تنسب الشيء المعظم إلى أعظم الأشياء ، فيقولون : أظلمت لموت فلان الأرض ، وقامت له القيامة , وقال جماعة : المراد اهتزاز سرير الجنازة وهو النعش ، وهذا القول باطل ، يرده صريح هذه الروايات التي ذكرها مسلم " . 92
قال ابن قتيبة ـ رحمه الله ـ :
" وأما قولهم : كيف يعذب من تبادر إلى غسله سبعون ألف ملك ؟
فإن للموت وللبعث والقيامة زلازل شداد , وأهوالاً لا يسلم منها نبي ولا ولي يدلك أن رسول الله  كان يتعوذ بالله من عذاب القبر , ولو كان يستحيل , ما تعوذ منه ولكنه خاف ما قضى الله عز وجل من ذلك على جميع عباده وأخفاه عنهم , فلم يجعل منهم أحدا على أمن ولا طمأنينة , ويدلك قول الأنبياء صلوات الله عليهم يوم القيامة : " يا رب نفسي نفسي " , وقول نبينا : " يا رب أمتي أمتي " , ويدلك قول الله عز وجل : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } , أعلمنا أنه ليس من أحد إلا يرد النار { ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا } .
وقال عمر بن الخطاب : " لو كان لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع " , وقال ابن عباس في قول الله عز وجل : {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب } , تدخلهم دهشة من أهوال يوم القيامة " . 93
وقال الشيخ عطية صقر :
" اهتزاز عرش الرحمن على المعانى التى فسر بها هو تكريم له ، لأنه أبلى بلاء حسنا فى غزوة الخندق .
ولما انفجر عرقه احتضنه الرسول  فجعل الدم يسيل عليه ، وبكاه أبو بكر وعمر ، ولما دفنه الرسول  وانصرف جعلت دموعه تنزل على لحيته ، ولما رأى أمه تندبه قال " كل نادبة كاذبة إلا نادبة سعد " , ولما حملت جنازته قال المنافقون : ما أخف جنازته ، وذلك لحُكمه فى بنى قريظة ، فقال  : " إن الملائكة كانت تحمله " .
ذلك إلى جانب موقفه يوم بدر عندما استشار النبى  أصحابه فقال قولا عظيماً يدل على حبه للرسول وعلى شجاعته وشوقه إلى الشهادة , هذا بعض من سيرة سعد ومقاماته وتكريم الله له " . 94


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 6:03 pm

الحديث الثامن عشر
الكافر يأكل في سبعة أمعاء
عن ابن عمر  قال :
قال رسول الله  : " إن المؤمن يأكل في معي واحد , وإن الكافر أو المنافق - فلا أدري أيهما قال عبيد الله - يأكل في سبعة أمعاء " . 95
 الشبهة : قالوا : كيف يأكل الكافر أو المنافق في سبعة أمعاء ، وليس له إلا أمعاء واحدة , شأنه كشأن أي إنسان آخر ؟!
 الجواب : قال الإمام ابن حجر ـ رحمه الله ـ :
" اختلف في معنى الحديث فقيل : ليس المراد به ظاهره , وإنما هو مثل ضُرب للمؤمن وزهده في الدنيا , والكافر وحرصه عليها , فكان المؤمن لتقلله من الدنيا يأكل في معي واحد , والكافر لشدة رغبته فيها واستكثاره منها يأكل في سبعة أمعاء , فليس المراد حقيقة الأمعاء ولا خصوص الأكل , وإنما المراد : التقلل من الدنيا والاستكثار منها , فكأنه عبر عن تناول الدنيا بالأكل وعن أسباب ذلك بالأمعاء , ووجه العلاقة ظاهر .
وقيل : المعنى أن المؤمن يأكل الحلال , والكافر يأكل الحرام والحلال أقل من الحرام في الوجود , نقله ابن التين .
وقيل : حمل قوم هذا الحديث على الرغبة في الدنيا كما تقول : فلان يأكل الدنيا أكلاً , أي : يرغب فيها ويحرص عليها , فمعنى المؤمن يأكل في معي واحد أي : يزهد فيها فلا يتناول منها إلا قليلاً , والكافر في سبعة أي : يرغب فيها فيستكثر منها .
وقيل : المراد حض المؤمن على قلة الأكل إذا علم أن كثرة الأكل صفة الكافر , فإن نفس المؤمن تنفر من الاتصاف بصفة الكافر , ويدل على أن كثرة الأكل من صفة الكفار قوله تعالى : { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام } .
وقيل : بل هو على ظاهره , ثم اختلفوا في ذلك على أقوال أحدها : أنه ورد في شخص بعينه , واللام عهدية لا جنسية , جزم بذلك ابن عبد البر فقال : لا سبيل إلى حمله على العموم لأن المشاهدة تدفعه , فكم من كافر يكون أقل أكلا من مؤمن وعكسه , وكم من كافر أسلم فلم يتغير مقدار أكله , قال : وحديث أبي هريرة يدل على أنه ورد في رجل بعينه , فإن الحديث خرج مخرج الغالب وليست حقيقة العدد مراده .
وقالوا : تخصيص السبعة للمبالغة في التكثير , كما في قوله تعالى : { والبحر يمده من بعده سبعة أبحر } , والمعنى : أن من شأن المؤمن التقلل من الأكل لاشتغاله بأسباب العبادة , ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما يسد الجوع ويمسك الرمق ويعين على العبادة , ولخشيته أيضاً من حساب ما زاد على ذلك , والكافر بخلاف ذلك كله فإنه لا يقف مع مقصود الشرع , بل هو تابع لشهوة نفسه مسترسل فيها غير خائف من تبعات الحرام , فصار أكل المؤمن لما ذكرته إذا نسب إلى أكل الكافر كأنه بقدر السبع منه , ولا يلزم من هذا اطراده في حق كل مؤمن وكافر , فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيراً أما بحسب العادة , وأما لعارض يعرض له من مرض باطن أو لغير ذلك ويكون في الكفار من يأكل قليلاً , أما لمراعاة الصحة على رأي الأطباء , وأما للرياضة على رأي الرهبان , وأما لعارض كضعف المعدة .
و قال الطيبي ـ رحمه الله ـ :
ومحصل القول أن من شأن المؤمن الحرص على الزهادة والاقتناع بالبلغة بخلاف الكافر , فإذا وجد مؤمن أو كافر على غير هذا الوصف لا يقدح في الحديث , ومن هذا قوله تعالى : { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } الآية وقد يوجد من الزاني نكاح الحرة , ومن الزانية نكاح الحر .
وقيل : أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث التام الإيمان , لأن من حسن إسلامه , وكمل إيمانه اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده , فيمنعه شدة الخوف وكثرة الفكر والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوته , كما ورد في حديث لأبي إمامة رفعه : " من كثر تفكره قل طعمه , ومن قل تفكره كثر طعمه وقسا قلبه " , ويشير إلى ذلك حديث أبي سعيد الصحيح : " أن هذا المال حلوة خضرة فمن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع " , فدل على أن المراد بالمؤمن من يقتصد في مطعمه , وأما الكافر فمن شأنه الشره فيأكل بالنهم كما تأكل البهيمة ولا يأكل بالمصلحة لقيام البنية .
وقيل : أن المؤمن يسمى الله تعالى عند طعامه وشرابه فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل , والكافر لا يسمى فيشركه الشيطان كما تقدم تقريره قبل , وفي صحيح مسلم في حديث مرفوع : " أن الشيطان يستحل الطعام أن لم يذكر اسم الله تعالى عليه " .
وقيل : أن المؤمن يقل حرصه على الطعام فيبارك له فيه وفي مأكله فيشبع من القليل , والكافر طامح البصر إلى المأكل كالأنعام فلا يشبعه القليل , وهذا يمكن ضمه إلى الذي قبله ويجعلان جواباً واحداً مركباً " . 96
وقال العلامة المناوي ـ رحمه الله ـ :
" قيل : هذا خاص بمعاء رجل , قيل هو ( نضلة الغفاري ) , وقيل غيره فاللام عهدية , وقيل : عام , وهو تمثيل لكون المؤمن يأكل بقدر ما يمسك رمقه ويقوى به على الطاعة , فكأنه يأكل في معاء واحد , والكافر لشدة حرصه كأنه يأكل في أمعاء كثيرة , فالسبعة للتكثير , قال القرطبي : وهذا أرجح .
أو المؤمن يأكل للضرورة , والكافر يأكل للشهوة , أو المؤمن يقل حرصه وشرهه على الطعام ويبارك له في مأكله ومشربه فيشبع من قليل , والكافر شديد الحرص لا يطمح بصره إلا للمطاعم والمشارب كالأنعام فمثل ما بينهما من التفاوت كما بين من يأكل في وعاء ومن يأكل في سبعة , وهذا باعتبار الأعم الأغلب , ولعلك إن وجدت مسلماً أكولا , ولو فحصت وجدت من الكفار
من تفضل نهمته أضعافاً مضاعفة .
وقيل : أراد بالسبعة صفات سبع : الحرص والشره وبعد الأمل والطمع وسوء الطبع والحسد وحب السمن , وقيل شهوات الطعام سبع شهوة النفس وشهوة العين وشهوة الفم وشهوة الأذن وشهوة الأنف وشهوة الجوع , وهي الضرورة وهي التي يأكل بها المؤمن .
قال بعض الصحابة : " وددت لو جعل رزقي في حصاة ألوكها حتى أموت "
أو المراد المؤمن الكامل الإيمان , لأن شدة خوفه وكثرة تفكره تمنعه من استيفاء شهوته , أو المؤمن يسمى فلا يشركه الشيطان فيكفيه القليل بخلاف الكافر .
وقال ابن العربي : السبعة كناية عن الحواس الخمس والشهوة والحاجة وفيه حث على التقلل من الدنيا والزهد والقناعة بما تيسر , وقد كان العقلاء في الجاهلية والإسلام يمتدحون بقلة الأكل ويذمون كثرته
قال الغزالي : المعاء كناية عن الشهوة فشهوته سبعة أمثال شهوة المؤمن . 97
وقال الإمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ :
" تأملنا الحديث فوجدنا المؤمن يسمي على طعامه فيكون فيه البركة , ووجدنا الكافر لا يسمي على طعامه فلا يكون فيه بركة .
غير أنا قد وجدنا بعض المؤمنين يكثر طعامهم , وبعض الكافرين يقل أكلهم
فعقلنا أنه لم يرد بما في هذه الآثار كل المؤمنين ولا كل الكافرين , وأنه إنما أراد به الخاص منهم .
كما حدثنا يونس قال : أنبأ ابن وهب أن مالكاً أخبره عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة  : " أن رسول الله  ضافه ضيف كافر , فأمر رسول الله  بشاة فحلبت , فشرب حلابها , ثم أمر بأخرى فشربه , ثم أمر بأخرى فشربه , ثم أمر بأخرى فشربه , حتى شرب حلاب سبع شياه , ثم إنه أصبح فأسلم فأمر له رسول الله  بشاة فحلبت , فشرب حلابها , ثم أمر بأخرى فلم يستتمها ، فقال رسول الله  : " المؤمن يشرب في معي واحد ، والكافر يشرب في سبعة أمعاء " .
فوقفنا بذلك على أن السبب الذي قال فيه رسول الله  القول الذي ذكرنا في الآثار التي رويناها في صدر هذا الباب وأن ذلك منه , إنما كان في رجل بعينه في حال كفره وفي حال إسلامه , فلم يكن للحديث عندنا وجه غير هذا الوجه ، وكان قول النبي  : " المؤمن يأكل في معي , واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء " , خرج مخرج المعرفة , وما خرج مخرج المعرفة لم يتعد من قصد به إليه إلى من سواه ، ومن ذلك قول الله عز وجل { فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا } .
فقال أهل العلم في ذلك : لا يغلب عسر يسرين , مستخرجين لذلك المعنى في هذه الآية , لأن العسر خرج مخرج المعرفة فكان على واحد ، وخرج اليسر مخرج النكرة فكان في كل واحد من قوله عز وجل : { إن مع العسر يسرا } غير الذي في الآخر منهما , وكذلك كل ما يجيء مجيء المعرفة فهو على ما ذكرنا , إلا أن يكون فيه دلالة تدل على القصد الذي ما هو أكثر من الواحد فينصرف إلى ذلك , ويرجع حكمه إلى حكم النكرة كقوله عز وجل : { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } , فعلم بذلك أنه أريد به الجنس لا الإنسان الواحد والله عز وجل نسأله التوفيق . 98
   

الحديث التاسع عشر
شبهة أن الرسول  يسب
عن أبى هريرة  قال :
قال رسول الله  : " اللهم ! إنما أنا بشر ، فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته ، أو جلدته ، فاجعلها له زكاة ورحمة " . 99
 الشبهة : هذا الحديث الذي يبين كمال شفقة رسول الله  على أمته ، طعن فيه أعداء السنة المطهرة ، والسيرة العطرة ، وزعموا أنه موضوع ، وفيه تشويه لصورة الرسول  ، وطعن في عصمته وفى سلوكه وهديه ، إذ لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، ولا لعاناً ولا سباباً .
 والجواب : ويجاب عن ما سبق بما يلي :
أولاً : الحديث صحيح سنداً ومتناً , وثابت بأصح الأسانيد في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل , فقد رواه الشيخان في صحيحيهما ، ولا يصح لنا أن نكذب البخارى ومسلم وروايتهما ، اعتماداً على رأى ليس له من حظ في توثيق الأخبار ، وإقرار الحقائق من قريب أو بعيد .
ثانياً : ليس في حديثنا ما يشوه سيرة رسول الله  ، وعصمته في أخلاقه ، لأنه لا خلاف في أن رسول الله  مأمور بالغلظة على الكفار والمنافقين عملاً بقوله تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم
جهنم وبئس المصير } التوبة : 73 .
ولقد تكررت هذه الآية في القرآن مرتين ، فيهما :{ واغلظ عليهم } , ولا مانع من أن يكون من هذا الإغلاظ سبهم ولعنهم ، بدليل ما ورد في السنة المطهرة ، من أنه  كان يدعو على رجال من المشركين ، يسميهم بأسمائهم حتى أنزل الله تعالى : { ليس لك من الأمر شئ أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } آل عمران : 128 , وليس في الآية الكريمة نهى عن اللعن ، وإنما النهى حسب سبب النزول عن تعيين أسماء من يلعنهم ، لعل الله أن يتوب عليهم , أو يعذبهم في الدنيا بقتلهم ، وفى الآخرة بالعذاب الأليم فإنهم ظالمون.
وتأمل ختام الآية : { فإنهم ظالمون } والظالمون لعنهم رب العزة بصفتهم دون أسمائهم في أكثر من آية منها :
قوله تعالى :{ فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين }الأعراف :44
وقوله عز وجل : { ألا لعنة الله على الظالمين } هود : 18
هذا فضلاً عن الآيات التي تلعن اليهود ، وتلعن الكاذبين والكافرين ، وتلعن بعض عصاة المؤمنين كالذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات وغيرهم.
كقوله تعالى: { وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } وقوله سبحانه : { لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } المائدة : 78 , وقوله عز وجل : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين } البقرة : 161 , وقوله تعالى : { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والآخرة } النور : 23 , وقوله سبحانه : { والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين } النور : 7 .
وجاءت السنة المطهرة وعلى لسان صاحبها المعصوم  تلعن من لعنهم الله في كتابه ، ومنهم عصاة المؤمنين بصفتهم دون تعيين أشخاصهم ، حيث جاء لعن الله ولعن رسول الله للسارق 100, والواصلة والواشمة 101, ولعن من لعن والديه ، ومن ذبح لغير الله ، ومن آوى محدثاً ، ومن غير منار الأرض , والشارب الخمر , والراشي والمرتشي , ومن حلق أو سلق أو خرق , ومن مثل بالحيوان , وغيرهم ممن هو مشهور في الأحاديث الصحيحة
فهذه الآيات والأحاديث تبين في صراحة ووضوح جواز لعن من لعنهم الله في كتابه ، وعلى لسان نبيه  في سنته المطهرة بصفتهم دون تحديد أشخاصهم , وهذا الجواز في حق الأنبياء وأممهم على السواء ، فهو من اللعن المباح .
وتأمل الآية السابقة : { لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون } المائدة : 78 , فداود وعيسى عليهما السلام ، لعنوا الذين كفروا من بنى إسرائيل ، فإذا لعن رسول الله  الذين كفروا من قومه لم يكن بدعاً من الرسل , وإذا لعن العصاة من هذه الأمة كما ورد في القرآن الكريم ، وكما أوحى إليه ربه بوحي غير متلو , كنحو الذين يرمون أزواجهم , ولم يكن لهم بينة إلا أنفسهم ، وكالذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، وكنحو الواصلة والواشمة، والسارق ، ومن لعن والديه . . . الخ.
إذا لعن رسول الله  كل هؤلاء بصفتهم دون أشخاصهم , كما أوحى إليه ربه ـ بوحي متلو أو غير متلو ـ لم يكن في ذلك ما يشوه سيرته العطرة ، ولا ما يطعن في عصمته في سلوكه وهديه وخلقه , لأن المنهي عنه من اللعن تحديد أسماء من يلعن ، دون صفة فعلهم ، وقد جاء التوجيه الرباني لنبيه بذلك ، لعل الله أن يتوب عليهم ، وهو ما حدث مع بعضهم في حديث ابن عمر من رواية الترمذي .
ثالثاً : ليس في حديثنا ما يعارض ما ورد في أحاديث أخرى نحو حديث أبى هريرة قال : قيل يا رسول الله ! ادع على المشركين , قال : " إني لم أبعث لعاناً ، وإنما بعثت رحمة " وحديث : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " .
لأن هذه الأحاديث مطلقة ، وجاء ما يقيدها ، وحمل المطلق على المقيد حينئذ واجب ، جمعاً بين ما ظاهره التعارض .
رابعاً : ليس في حديثنا ما يعارض ما ورد عنه  ، أنه لم يكن فاحشاً ، ولا لعاناً ولا سباباً , لأن هذا الحديث مقيد أيضاً بما سبق من الآيات والأحاديث التي تبين مشروعية وجواز أن يلعن رسول الله  من أوحى إليه ، لعنهم بصفتهم دون ذكر أسماءهم ، سواء بوحي متلو أو غير متلو ، على ما سبق ، وقد جاء حديثنا مؤكداً لما سبق من الآيات والأحاديث ، حيث جاء أيضاً مقيداً ، بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس مرفوعاً : " فأيما أحد دعوت عليه من أمتي ، بدعوة ليس لها بأهل ، أن يجعلها له طهوراً ، وزكاة ، وقربة يقربه بها منه يوم القيامة " . 102
فقوله : " بدعوة ليس لها بأهل " , تقييد يبين المراد بباقي الروايات المطلقة لحديثنا ، وأنه إنما يكون دعاؤه رحمة ، وكفارة ، وزكاة .
خامساً : فإن قيل : كيف يدعو رسول الله  على من ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبه . أو يلعنه , أو يجلده ؟
فالجواب ما أجاب به العلماء من ثلاثة وجوه :
الوجه الأول : أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله تعالى في باطن الأمر ، ولكنه في الظاهر مستوجب له ، فيظهر له  استحقاقه لذلك بأمارة شرعية ، ويكون في باطن الأمر ليس أهلاً لذلك ، وهو  مأمور بالحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر .
والأحاديث في الدلالة على ذلك كثيرة ، اكتفى منها بما روى عن أبى سعيد الخدري  قال : بعث على بن أبى طالب  إلى رسول الله  من اليمن بذهيبة فقسمها بين أربعة ، فقال رجل : يا رسول الله , اتق الله , فقال : " ويلك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقى الله " , ثم ولى الرجل ، فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه ؟ فقال : " لا , لعله أن يكون يصلى " فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، فقال  : " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم " . 103
ففي قوله : " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس , ولا أشق بطونهم " دلالة على ما أجمع عليه العلماء في حقه  من الحكم بالظاهر ، والله يتولى السرائر . 104
والوجه الثاني : أنه أراد أن دعوته عليه ، أو سبه ، أو جلده ، كان مما خير بين فعله له عقوبة للجاني ، أو تركه , والزجر له بما سوى ذلك فيكون الغضب لله تعالى ، بعثه على لعنه وسبه ، ولا يكون ذلك خارجاً عن شرعه.
ويشهد لصحة هذا الوجه ، ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن عائشة قالت دخل على رسول الله  رجلان فكلماه بشئ ، لا أدرى ما هو ، فأغضباه ، فلعنهما وسبهما ، فلما خرجا , قلت : يا رسول الله ، ما أصاب من الخير شيئاً ما أصابه هذان , قال : " وما ذاك ؟ " , قالت : قلت لعنتهما وسببتهما , قال : " أو ما علمت ما شرطت عليه ربى ؟ , قلت : اللهم إنما أنا بشر , فأي المسلمين لعنته أو سببته ، فاجعله له زكاة وأجراً " .
فتأمل : كيف أن غضبه  في الحديث السابق ، كان غضبة لله عز وجل ، فكان دعاؤه في تلك الغضبة ، مما خير بين فعله عقوبة للجاني ، أو تركه والزجر له بما سوى ذلك .
وليس في ذلك الغضب خروج عن شرعه ، وعصمته في سلوكه وخلقه ، بل في ذلك كمال خلقه ، ودلالة على بشريته ، كما صرح بذلك في رواية مسلم عن أنس قال : " إنما أنا بشر , أرضى كما يرضى البشر , وأغضب كما يغضب البشر " .
ولا يفهم من قوله : " وأغضب كما يغضب البشر " , أن الغضب حمله على مالا يجب ، بل يجوز أن يكون المراد بهذا : أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه ، وأنه مما كان يحتمل ، ويجوز عفوه عنه ، أو كان مما خير بين المعاقبة فيه والعفو عنه . 105
ومع ذلك ، فمن كمال شفقته ، وخلقه على أمته ، سأل ربه عز وجل ، أن يجعل دعاءه مغفرة ورحمة لمن دعا عليه من أمته .
والوجه الثالث : أن يكون اللعن والسب والجلد ، وقع منه  من غير قصد إليه ، فلا يكون في ذلك ، كاللعنة ، والسبة ، والجلدة الواقعة بقصد ونية ، ورغبة إلى الله ، وطلباً للاستجابة ، بل كل ذلك يجرى على عادة العرب في وصل كلامها عند الحرج ، والتأكيد للعتب ، لا على نية وقوع ذلك نحو قولهم عقري حلقي ، وتربت يمينك ، فأشفق من موافقة أمثالها القدر فعاهد ربه ورغب إليه أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة .
وأشار القاضي عياض إلى ترجيح هذا الوجه , وحسنه الحافظ ابن حجر , إلا أنه أخذ عليه أن قوله : " جلدته " لا يتمشى فيه ، إذ لا يقع الجلد عن غيره قصد , إلا أن يحمل على الجلدة الواحدة فيتجه . 106
وهى محمولة على الجلدة الواحدة ، وسيأتي من حديث أبى السوار عن خاله وعن ابن عباس ، أن الجلدة تقع منه  عن غير قصد ، وهو ما يرجح هذا الوجه مع الوجه الثاني , ويشهد لرجحان الوجه الثالث ما يلي :
ما روى عن أنس قال : لم يكن رسول الله  ، فاحشاً ، ولا لعاناً ، ولا سباباً كان يقول عن المعتبة : " ماله ترب جبينه " . 107
وعن المغيرة بن شعبة  قال : " ضفت مع رسول الله  ذات ليلة ، فأتى بجنب مشوى ، ثم أخذ الشفرة فجعل يحز ، فحز لي بها منه , قال : فجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فألقى الشفرة فقال : " ماله ؟ تربت يداه " , قال : وكان شاربه قد وفى , فقال له : أقصه لك على سواك , أو قصة على سواك " . 108
" فترب جبينه " و" تربت يداه " , في الحديثين أصلها : من ترب الرجل ، إذا افتقر , أي : لصق بالتراب ، وهى كلمة جارية على ألسنة العرب ، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ولا وقوع الأمر به كما يقولون قاتله الله .
وعن معاذ بن جبل  قال : قلت : يا رسول الله , أنؤاخذ بما نقول : قال : " ثكلتك أمك يا بن جبل ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم " . 109
فقوله : " ثكلتك أمك " أي فقدتك , والثكل : فقد الولد ، هذا أصل الكلمة فهو دعاء عليه بالموت على ظاهره ، ولا يراد وقوعه ، بل تأديب وتنبيه من الغفلة لسوء قوله .
فهذا أصل هذا الكلام ، ثم اتسع العرب في قولهما بغير إرادة حقيقتهما ، ففي ذلك كله دلالة على استعمال رسول الله  لما جرت به العادة في الخطاب ، ولا يراد به حقيقته ، فكثيراً ما ترد للعرب ألفاظ ظاهرها الذم ، وإنما يريدون بها المدح ، كقولهم : لا أب لك ، ولا أم لك ، ونحو ذلك .
فأشفق  على من دعا عليه بمثل ما سبق أن يوافق القدر ، فسأل ربه عز وجل أن يجعل ذلك القول رحمة وقربة ، وهذا من جميل خلقه العظيم .
ومن ذلك ما رواة أنس  قال : كانت عند أم سليم يتيمة ، فرأى رسول الله اليتيمة فقال : " أنت هيه ! لقد كبرت ، لا كبر سنك " , فرجعت اليتيمة إلى أم سليم تبكى ، فقالت أم سليم : مالك يا بنية ! قالت الجارية : دعي على نبي الله أن لا يكبر سني ، فالآن لا يكبر سني أبداً ، أو قالت : قرني ، فخرجت أم سليم مستعجلة تلوث خمارها حتى لقيت رسول الله  فقال لها : " مالك يا أم سليم ؟ " فقالت : يا نبي الله ! أدعوت على يتيمتي ؟ قال : " وما ذاك يا أم سليم ؟ " قالت : زعِمت أنك دعوت أن لا يكبر سنها ، ولا يكبر قرنها ، قال : فضحك رسول الله  ثم قال : " يا أم سليم ! أما تعلمين أن شرطي على ربى , أنى اشترطت على ربى فقلت : إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر , وأغضب كما يغضب البشر ، فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل , أن يجعلها له طهوراً وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة " . 110
وعن ابن عباس  أن رسول الله  بعث إلى معاوية ليكتب له فقال : إنه يأكل ، فقال رسول الله  : " لا أشبع الله بطنه " ، زاد البيهقي في الدلائل : فما شبع بطنه أبداً . 111
قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ :
" وقد فهم مسلم ـ رحمه الله ـ من هذا الحديث أن معاوية لم يكن مستحقاً للدعاء عليه ، فلهذا أدخله في هذا الباب , يعنى باب " من لعنه النبي  أو سبه أو دعاء عليه ، وليس هو أهلاً لذلك , كان له زكاة وأجراً ورحمة " , وجعله غيره من مناقب معاوية ، لأنه في الحقيقة يصير دعاء له . 112
وقال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ :
وقد انتفع معاوية  بهذه الدعوة في دنياه وأخراه ، أما في دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميراً كان يأكل في اليوم سبع مرات ، يجاء بقصعة فيها لحم كثير ، وبصل فيأكل منها ، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم ، ومن الحلوى والفاكهة شيئاً كثيراً ، ويقول : والله ما أشبع ، وإنما أعيا ـ أي أتعب ـ وهذه نعمة , ومعدة يرغب فيها كل الملوك ، وأما في الآخرة فقد اتبع المسلمون هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه ، عن جماعة من الصحابة أن رسول الله  قال : " اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته , أو جلدته أو دعوت عليه ، وليس لذلك أهلاً فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة " , فركب مسلم من الحديث فضيلة لمعاوية ، ولم يورد له غير ذلك . 113
ومن وجه أخر نقول : وما ورد هنا في حديث أنس من قوله : " لقد كبرت لا كبر سنك " , وفى حديث ابن عباس : " لا أشبع الله بطنه " , الظاهر من هذا الدعاء أنه وقع منه  بغير قصد ولا نية ، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية , ومع ذلك أشفق نبي الرحمة من موافقة أمثالها إجابة فعاهد ربه كما في روايات الحديث ، أن يجعل ذلك للمقول له زكاة ورحمة وقربة وهذا إنما يقع منه  في النادر الشاذ من الزمان .
ومن هذا القبيل ما جاء في ضربه  لعبد الله بن عباس  ملاطفة وتأنيساً وحثاً له على سرعة إنجاز ما طلبه منه .
فعن ابن عباس قال : " كنت ألعب مع الصبيان ، فجاء رسول الله  فتواريت خلف باب ، قال : فجاء فحطأنى ـ أي ضربني باليد مبسوطة بين الكتفين ـ وقال " اذهب وادع لي معاوية . . . الحديث " .
وفيما سبق فيه الكفاية للدلالة على ترجيح الوجه الثالث في معنى حديثنا , كما أن في كل ما سبق رد على استغلال بعض الفرق وأشياعهم حديث ابن عباس السابق للطعن في معاوية .
وليس في الحديث ما يساعدهم على ذلك , كيف وفى الحديث أنه كان كاتب الوحي لرسول الله  .
وبالجملة : فحديثنا ليس فيه ما يعارض عصمة رسول الله  في سلوكه وهديه ، وخلقه العظيم ؛ بل فيه كمال شفقته  على أمته ، وجميل خلقه ، وكرم ذاته ، حيث قصد مقابلة ما وقع منه بالجبر والتكرم .
   

الحديث العشرون
شبهة طواف النبي  على نسائه
عن أنس بن مالك  قال :
" كان النبي  يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار ، وهن إحدى عشرة " , قال قتادة : قلت لأنس : أو كان يطيقه ؟
قال : " كنا نتحدث أنه أعطى قوة ثلاثين " . 114
 الشبهة : هذا الحديث الذي يبين ما اختص به رسول الله  دون غيره من الناس ، ويبين عدله  بين أهل بيته ، يطعن فيه أعداء السنة النبوية بزعم أنه يسهم في تشويه صورة الرسول  ويطعن في عصمته في سلوكه ، حيث يجعل الحديث بزعمهم من رسول الله  مهووساً بالجماع , كما زعموا أن الحديث يتعارض مع القرآن الذي يبين أن النبي  كان يقضى ليله في قيام الليل ، وقراءة القرآن والعبادة ، ويقضى نهاره في الجهاد ونشر الدعوة .
 والجواب : ويجاب عن ما سبق بما يلي :
أولاً : ليس في رواية رواة السنة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى أئمة المحدثين كالبخاري ومسلم وغيرهما , ليس في روايتهم الحياة الخاصة لرسول الله  ما يشوه سيرته العطرة , لأن رسول الله  معصوم في سلوكه وهديه ، وما ينقل عنه من حياته الخاصة دين ، وللأمة فيه القدوة والأسوة الحسنة ، وليس أدل على ذلك ما سبق ذكره من اختلافهم في جواز القبلة للصائم ، وفى طلوع الصبح على الجنب وهو صائم ، فسألوا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، فأخبرتهم أن ذلك وقع من النبي  فرجعوا إلى ذلك وعلموا أنه لا حرج على فاعله .
وهذا النقل لما يخصه  في حياته الخاصة ، حث عليه ، وكان بإذنه , بدليل ما روى أن رجلاً سأل رسول الله  عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل ، هل عليهما الغسل ؟ وعائشة جالسة فقال : " إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل " 115
كما دل على أن هذا النقل من الدين قوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } النساء : 13 , فهذا نص قرآني صريح يأمر بحسن صحبة الزوجة بكل ما تعنيه كلمة المعروف .
ومعلوم أن مراد الله في كتابه من مهامه  لقوله تعالى : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } النحل : 44 .
ومن هنا : كان نقل هذا البيان في الحياة الخاصة لرسول الله  قولاً وعملاً دين واجب ذكره ، لتتعلم الأمة المراد بخطاب ربها : { وعاشروهن بالمعروف } , ولذا ذكر العلماء من حكم كثرة أزواجه  ما يلي :
نقل الأحكام الشرعية التي لا يطلع عليها الرجال ، لأن أكثر ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي , مثله :
الإطلاع على محاسن أخلاق رسول الله  الباطنة ، فقد تزوج  أم حبيبة بنت أبى سفيان وأبوها إذ ذاك يعاديه ، وصفية بنت حيى بن أخطب ، بعد قتل أبيها وعمها وزوجها .
فلو لم يكن  أكمل الخلق في خلقه لنفرن منه ! بل الذي وقع أنه كان أحب إليهن من جميع أهلهن . 116
وفيما سبق من حكم كثرة أزواجه وغيرها ، تأكيد لعصمته  في سلوكه وهديه مع أزواجه الأطهار , لأنه إذا كان ما يقع مع الزوجة مما شأنه أن يختفي مثله عن الناس ، لما فيه من نقص في قول أو عمل ، فهذا بخلاف سيدنا رسول الله  لعصمة الله عز وجل له ، فقوله وعمله مع أهل بيته كله كمال ، ومما تقتضى به الأمة , وإليك بيان ذلك في حديثنا .
ثانياً : لا وجه على ما سبق لإنكار أعداء السنة لما ينقل من أحوال رسول الله  مع أهل بيته ، وزعمهم أن في ذلك تشويه لشخصيته وسيرته العطرة ، لأن في ذلك المنقول بيان لعصمته ، وعظمة شخصيته ، ومحاسن أخلاقه الباطنة مع أهل بيته ، وهذا ما دل عليه حديثنا ، حيث فيه البيان العملي منه لما حث عليه قولا .
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله  : " إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا , وألطفهم بأهله " 117, وعنها أيضاً عن رسول الله  قال : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " 118, وهذه الأقوال منه  تأكيداً وبياناً لقول رب العزة : { وعاشروهن بالمعروف } وهى كلمة جامعة تعنى : التحلي بمكارم الأخلاق في معاملة الزوجات ، من صبر على ما قد يبدر منهن ، أو تقصير في أداء واجباتهن ، ومن حلم عن إيذائهن في القول أو الفعل ، وعفو وصفح عن ذلك ، ومن كرم في القول والبذل ، ولين في الجانب , ورحمة في المعاملة ، إلى غير ذلك مما تعنيه المكارم الأخلاقية التعاملية الأسرية .
وذلك هو ما دل عليه حديثنا عن عدله  بين نسائه في القسم , كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " كان رسول الله  لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا ، وكان قل يوم يأتي إلا وهو يطوف علينا جميعاً , فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها " . 119
وهذا الحديث نص صريح يبين لنا حقيقة طوافه  على نسائه جميعاً في الساعة الوحدة من الليل والنهار .
إنه طواف حب ومداعبة ، بدون جماع ، حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها ، كما هو ظاهر كلام عائشة رضي الله عنها.
ولا يتعارض مع ظاهر حديث أنس  في أن حقيقة طوافه  على نسائه جميعاً بجماع .
إذ الجمع بينهما حينئذ يكون : بحمل المطلق في كلام أنس على المقيد في كلام عائشة , ووجه آخر : بحمل كلام عائشة على الغالب ، وكلام أنس على القليل النادر ، فلا مانع من أنه  إذا طاف على نسائه جميعاً في بعض الأحيان يكون بجماعهن جميعاً ، وتكون له  القدرة على ذلك .
ثالثاً : ليس للناقل لخصائص رسول الله  من رواة السنة والسيرة أي دخل فيها سوى النقل ، وأداء الأمانة ، أمانة الدين ، كما قال  : " نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه " , وقوله  : " بلغوا عنى ولو آية… الحديث " , فإذا أدوا هذه الأمانة كان لهم خير الجزاء من ربهم ، والشكر الجميل منا ، لم أدوا إلينا من الدين .
أما الافتراء عليهم والزعم بأنهم يتدخلون فيما ينقلون ، ويجعلون من النبي  قوة في الجماع لا يعرفها أشد الرجال فحولة . . الخ .
فهذا محض كذب عليهم لا دليل عليه ، ونكران لجميلهم وفضلهم ، واستخفاف بعقل القارئ .
رابعاً : إنكار أعداء العصمة لم اختص به سيدنا رسول الله  في حديثنا هذا من قوة البدن وكثرة الجماع ، إنكار لكتاب الله عز وجل ورد على رب العزة كلامه القائل : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات } البقرة : 253 .
ومع أن كثرة أزواجه  يشترك فيها مع من سبقه من الأنبياء كما قال عز وجل : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية }الرعد : 38
وكذلك طوافه  على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار يشترك فيها مع من سبقه من الأنبياء , كما دل على ذلك قوله  : " كان لسليمان ستون امرأة فقال : لأطوفن عليهن الليلة فتحمل كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله ، فلم تحمل منهن إلا واحدة فولدت نصف إنسان " , فقال رسول الله  : " لو كان استثنى لولدت كل واحدة منهن غلاماً فارساً يقاتل في سبيل الله " . 120
إلا أنه  اختص في طوافه بخرق العادة له في كثرة الجماع ، مع التقلل من المأكول والمشروب ، وكثرة الصيام والوصال ، وقد أمر من لم يقدر على مؤن النكاح بالصوم ، وأشار إلى أن كثرة الصوم تكسر شهوته فانخرقت هذه العادة في حقه . 121
خامساً : ليس في الحديث كما يزعم أعداء السنة ، ما يتعارض مع كتاب الله عز وجل ويشغله  عن قيام الليل متهجداً لربه عز وجل , قال تعالى : { ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } الإسراء : 79 , وقال سبحانه : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين آمنوا معك } المزمل : 20.
لأن الحديث واضح وصريح في طوافه  على نسائه في ساعة واحدة من النهار أو الليل ، والساعة : هي قدر يسير من الزمان ، لا ما اصطلح عليه أصحاب الهيئة . 122
والساعة هنا : هي حق له ، ولأهل بيته  , ولا تشغله عن حق ربه عز وجل , ولا عن حق رسالته ، ونشر دعوته , فهو القائل لعبد الله بن عمرو بن العاص لم أخبر عنه أنه يصوم النهار أبداً ويقوم الليل ويقرأ القرآن كله ليلة ، خاطبه رسول الله  بقوله : " فإن لجسدك عليك حقاً ، وإن لعينك عليك حقاً ، وإن لزوجك عليك حقاً ، وإن لزورك عليك حقاً " . 123
وهكذا كان رسول الله  في سيرته يعطى كل ذي حق حقه ، يدل على ذلك ما روى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ سألت ما كان النبي  يصنع في أهله ؟ قالت : " كان في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة " 124, وفى رواية قالت: " كان بشراً من البشر يفلي ثوبه ، ويحلب شاته ، ويخدم نفسه " 125
تلك هي سنته  العدل ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، فمن كان عليها فقد اهتدى ، ومن كان عمله على خلافها فقد ضل ، وذلك ما صرح به المعصوم فعن ابن عباس  قال : " كانت مولاة للنبي  تصوم النهار وتقوم الليل ، فقيل له إنها تصوم النهار وتقوم الليل ، فقال رسول الله  : " إن لكل عمل شرة , والشرة إلى فترة , فمن كان فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل " . 126
وما حث عليه  في أن يكون نشاط المسلم واستقراره على سنته المطهرة ،
وسيرته العطرة ، لا يكون إلا بالعدل وإعطاء كل ذي حق حقه لربه ولجسده، ولأهله… الخ .
ولأنه  لا يخالف قوله عمله ، كان طوافه على نسائه جميعاً سواء بمسيس أو بدونه ، من العدل بإعطاء كل ذي حق حقه ، بدون أن يشغله ذلك عن حق ربه عز وجل , وإليك نماذج من قيامه الليل بما لا يتعارض مع طوافه على نسائه :
فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : " ما صلى رسول الله  العشاء قط , فدخل على إلا صلى أربع ركعات ، أو ست ركعات , ثم يأوي إلى فراشه " 127فهذا تأكيد من زوجته عائشة بأنه  ما ترك قيام الليل ، منذ دخل عليها .
وتحكى عائشة ـ رضي الله عنها ـ : " أنها افتقدت رسول الله  ذات ليلة , تقول : فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه فتحسست ، ثم رجعت ، فإذا هو راكع أو ساجد ، يقول : " سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت " , تقول : فقلت : بأبي وأمي إنك لفي شأن ، وإني لفي آخر " 128, تعنى : أنها غارت حيث افتقدته ، وظنت أنه ذهب إلى بعض نسائه ، ولكن إذ بها تجده قائماً بين يدي ربه عز وجل يناجيه.
وتوضح عائشة ـ رضي الله عنها ـ كيف كان رسول الله  يجمع بين حق الله تعالى في قيام الليل ، وبين حق أهل بيته وحقه فتقول : " كان رسول الله  ينام أول الليل ، ويحيى آخره ، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام , فإذا كان عند النداء الأول قالت : وثب , ولا والله ما قالت قام ، فأفاض عليه الماء ، ولا والله : ما قالت : اغتسل. وأنا أعلم ما تريد ، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة. ثم صلى الركعتين " . 129
فتأمل : كيف جعل رسول الله  الجماع تابعاً لقيام ليله ، وبعد فراغه منه ، ثم ينام حتى إذا دخل وقت الفجر قام بسرعة ، وبكل نشاط استعداداً لصلاة الفجر , بإفضاء الماء على جسده تطهيراً من الجنابة ـ إن كان جنباً ـ وتأمل دقة التعبير قالت : " وثب " ، يقول الأسود بن يزيد راوي الحديث : " لا والله : ما قالت قام . . . إلخ " , وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة ، ثم صلى الركعتين , أي : سنة الصبح .
وبنفس شهادة عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، شهد ابن عباس  عندما بات عند خالته أم المؤمنين ميمونة ـ رضي الله عنها ـ .
ففي الصحيحين عنه  : أنه بات عند ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها وهى خالته , قال : فاضطجعت على عرض الوسادة ، واضطجع رسول الله  وأهله في طولها ، فنام رسول الله  حتى انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ، ثم استيقظ رسول الله  فجلس , فمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات خواتيم سورة آل عمران ، ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ، ثم قام يصلى .
قال ابن عباس  : فقمت فصنعت مثل ما صنع ، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه
فوضع رسول الله  يده اليمنى على رأسي ، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها بيده ، فصلى ركعتين ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ثم أوتر ، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن ، فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح " . 130
وبعد : فهل قصر رسول الله  مع طوافه على نسائه جميعاً في ساعة واحدة من الليل أو النهار في قيام الليل ؟ .
أو هل تعارض حديث طوافه مع كتاب الله عز وجل ، كما يزعم أعداء السيرة العطرة ؟.
إن حديث طوافه  على نسائه جميعاً يبين بياناً عملياً على ما سبق , القرآن الكريم { وعاشروهن بالمعروف } , ويبين البيان العملي لخيرية وكمال أخلاقه وعصمته مع أهل بيته ، كما قال  : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي " , إنه يبين كمال رأفته وحبه وعدله مع أهل بيته ، كما صرحت بذلك عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : " لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا ، وكان قل يوم يأتي إلا وهو يطوف علينا جميعاً ، فيدنوا من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى التي هو يومها فيبيت عندها " .
   

الحديث الحادي والعشرون
المرآة التي قالت للنبي  أعوذ بالله منك
عن أبي أسيد  قال :
خرجنا مع النبي  حتى انطلقنا إلى حائط يقال له الشوط , حتى انتهينا إلى حائطين فجلسنا بينهما فقال النبي  : " اجلسوا ها هنا " .
ودخل وقد أتي بالجونية , فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحبيل , ومعها دايتها حاضنة لها , فلما دخل عليها النبي  قال " هبي نفسك لي " .
قالت : وهي تهب الملكة نفسها للسوقة ؟
قال : فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن , فقالت : أعوذ بالله منك , فقال : " قد عذت بمعاذ " , ثم خرج علينا فقال : " يا أبا أسيد اكسها رازقتين وألحقها بأهلها " . 131
 الشبهة : كيف يعقل هذا ، امرأة من المسلمين تقول للنبي  أعوذ بالله منك , أليس هذا من سوء الأدب مع النبي  ؟!
 الجواب : ليس الأمر في هذه الحديث كما يتوهم البعض ، ولكن للحديث قصة يرويها لنا الإمام ابن حجر ـ رحمه الله ـ فيقول :
وفي رواية لابن سعد : أن النعمان بن الجون الكندي أتى النبي مسلماً , فقال ألا أزوجك أجمل أيم في العرب , فتزوجها وبعث معه أبا أسيد الساعدي , قال أبو أسيد : فأنزلتها في بني ساعدة , فدخل عليها نساء الحي فرحين بها وخرجن فذكرن من جمالها .
قوله : " هبي نفسك لي . . الخ " , السوقة بضم السين المهملة , يقال للواحد من الرعية , والجمع قيل لهم ذلك : لأن الملك يسوقهم فيساقون إليه , ويصرفهم على مراده , وأما أهل السوق فالواحد منهم سوقي .
قال ابن المنير :
هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية , والسوقة عندهم من ليس بملك كائناً من كان , فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك , وكان  قد خير أن يكون ملكاً نبيا , فاختار أن يكون عبداً نبياً تواضعاً منه  لربه , ولم يؤاخذها النبي  بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها .
وقال غيره : يحتمل أنها لم تعرفه  فخاطبته بذلك , وسياق القصة من مجموع طرقها يأبى هذا الاحتمال .
قوله : " فأهوى بيده " , أي أمالها إليها , وفي رواية لابن سعد : فدخل عليها داخل من النساء , وكانت من أجمل النساء فقالت : إنك من الملوك فإن كنت تريدين أن تحظى عند رسول الله  فإذا جاءك فاستعيذي منه , ووقع عنده عن هشام بن محمد : أن عائشة وحفصة دخلتا عليها أول ما قدمت , فمشطتاها وخضبتاها وقالت لها إحداهما : أن النبي  يعجبه من المرأة إذا دخل عليها أن تقول أعوذ بالله منك .
قوله : " قد عذت بمعاذ " , هو بفتح الميم , ما يستعاذ به , أو اسم مكان العوذ .
قوله : ثم خرج علينا فقال : " يا أبا أسيد اكسها رازقين " ,الرازقية : ثياب من كتان بيض طوال , قاله أبو عبيدة . أهـ " . 132
   
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 6:05 pm

الحديث الثاني والعشرون
النساء ناقصات عقل ودين
  عن أبي سعيد الخدري  قال :
  خرج رسول الله  في أضحى أو فطر إلى المصلى , فمر على النساء فقال  " يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار " , فقلن : وبم يا رسول الله ؟
  قال : " تكثرن اللعن , وتكفرن العشير , ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " .
  قلن : وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟
  قال : " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل " .
  قلن : بلى .
  قال : " فذلك من نقصان عقلها , أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم " .
  قلن : بلى
  قال : " فذلك من نقصان دينها " .  133
   الشبهة : قالوا : لماذا تكون النساء ناقصات عقل ودين ، ولماذا تكون النساء أكثر أهل النار , أليس هذا تجنى للمرأة ,  وظلم لها وتنقيص من
قدرها ؟!
   الجواب :  المصدر الحقيقي لهذه الشبهة هو العادات والتقاليد الموروثة ، والتي تنظر إلى المرأة نظرة دونية , وهى عادات وتقاليد جاهلية ، حرر الإسلام المرأة منها , لكنها عادت إلى الحياة الاجتماعية ، في عصور التراجع الحضاري مستندة كذلك إلى رصيد التمييز ضد المرأة الذي كانت عليه مجتمعات غير إسلامية ، دخلت في إطار الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية ، دون أن تتخلص تماماً من هذه المواريث .
  فسرعة الفتوحات الإسلامية التي اقتضتها معالجة القوى العظمى المناوئة للإسلام قوى الفرس والروم وما تبعها من سرعة امتداد الدولة الإسلامية ، قد أدخلت في الحياة الإسلامية شعوباً وعادات وتقاليد لم تتح هذه السرعة للتربية الإسلامية وقيمها أن تتخلص تلك الشعوب من تلك العادات والتقاليد ، والتي تكون عادة أشد رسوخاً وحاكمية من القيم الجديدة , حتى لتغالب فيه هذه العادات الموروثة العقائد والأنساق الفكرية والمثل السامية للأديان والدعوات الجديدة والوليدة ، محاولة التغلب عليها !.
  ولقد حاولت هذه العادات والتقاليد بعد أن ترسخت وطال عليها الأمد ، في ظل عسكرة الدولة الإسلامية في العهدين المملوكي والعثماني أن تجد لنظرتها الدونية للمرأة " غطاء شرعياً " في التفسيرات المغلوطة لبعض الأحاديث النبوية , وذلك بعد عزل هذه الأحاديث عن سياقها ، وتجريدها من ملابسات ورودها ، وفصلها عن المنطق الإسلامي , منطق تحرير المرأة كجزء من تحريره للإنسان ، ذكراً كان أو أنثي هذا الإنسان , فلقد جاء الإسلام ليضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، وليحيى ملكات وطاقات الإنسان.
  وليشرك الإناث والذكور جميعاً في حمل الأمانة التي حملها الإنسان ، وليكون بعضهم أولياء بعض في النهوض بالفرائض الاجتماعية ، الشاملة لكل ألوان العمل الاجتماعي والعام .
  فبعد أن بلغ التحرير الإسلامي للمرأة إلى حيث أصبحت به وفيه :
  طليعة الإيمان بالإسلام , والطاقة الخلاقة الداعمة للدين ورسوله  كما كان حال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد ـ رضي الله عنها ـ حتى لقد كان عام وفاتها عام حزن المسلمين ورسول الإسلام ودعوة الإسلام .
  وطليعة شهداء الإسلام , كما جسدتها شهادة سمية بنت خياط  ، أم عمار بن ياسر .
  وطليعة المشاركة في العمل العام السياسي منه ، والشورى ، والفقهي ، والدعوى ، والأدبي ، والاجتماعي , بل والقتالي , كما تجسدت في كوكبة النخبة والصفوة النسائية التي تربت في مدرسة النبوة .
  والأكثر خطورة من هذه الأعراف والعادات والتقاليد التي سادت أوساطاً ملحوظة ومؤثرة في حياتنا الاجتماعية ، إبان مرحلة التراجع الحضاري ، هي التفسيرات المغلوطة لبعض المرويات الإسلامية بحثاً عن مرجعية إسلامية وغطاء شرعي لقيم التخلف والانحطاط التي سادت عالم المرأة في ذلك التاريخ  لقد كان الحظ الأوفر في هذا المقام للتفسير الخاطىء الذي ساد وانتشر لحديث رسول الله  الذي رواه البخاري ومسلم عن نقص النساء في العقل والدين .
  ذلكم هو الحديث الذي اتخذَ تفسيره المغلوط ولا يزال " غطاء شرعياً " للعادات والتقاليد التي تنتقص من أهلية المرأة .
  الأمر الذي يستوجب إنقاذ المرأة من هذه التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث بل إنقاذ هذا الحديث الشريف من هذه التفسيرات !.
  وذلك من خلال نظرات في " متن " الحديث و " مضمونه " نكثفها في عدد من النقاط :
  أولاها : أن الذاكرة الضابطة لنص هذا الحديث قد أصابها ما يطرح بعض علامات الاستفهام , ففي رواية الحديث شك من الراوي حول مناسبة قوله :  هل كان ذلك في عيد الأضحى , أم في عيد الفطر؟ , وهو شك لا يمكن إغفاله عند وزن المرويات والمأثورات .
  وثانيها: أن الحديث يخاطب حالة خاصة من النساء ، ولا يشرع شريعة دائمة ولا عامة في مطلق النساء , فهو يتحدث عن " واقع " والحديث عن " الواقع " القابل للتغير والتطور شيء ، والتشريع " للثوابت " عبادات وقيمًا ومعاملات شىء آخر .
  فعندما يقول الرسول  في المتفق عليه: " إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب" , فهو يصف " واقعاً " ، ولا يشرع لتأييد الجهل بالكتابة والحساب ، لأن القرآن الكريم قد بدأ بفريضة القراءة حيث قال تعالى : {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } .
  ولأن الرسول  الذي وصف " واقع " الأمية الكتابية والحسابية ، وهو الذي غير هذا الواقع ، بتحويل البدو الجهلاء الأميين إلى قراء وعلماء وفقهاء  وذلك امتثالاً لأمر ربه في القرآن الكريم ، الذي علمنا أن من وظائف جعل الله سبحانه وتعالى القمر منازل أن نتعلم عدد السنين والحساب : {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون } يونس : 5 , فوصف " الواقع " كما نقول الآن مثلاً : " نحن مجتمعات متخلفة " لا يعنى شرعنا هذا " الواقع " ولا تأييده ، فضلاً عن تأبيده ، بأي حال من الأحوال .
  ثالثها : أن في بعض روايات هذا الحديث وخاصة رواية ابن عباس  ما يقطع بأن المقصود به إنما هي حالات خاصة لنساء لهن صفات خاصة , هي التي جعلت منهن أكثر أهل النار ، لا لأنهن نساء ، وإنما لأنهن كما تنص وتعلل هذه الرواية " يكفرن العشير " ، ولو أحسن هذا العشير إلى إحداهن الدهر كله ، ثم رأت منه شيئاً لا يعجبها ، كفرت كفر نعمة بكل النعم التي أنعم عليها بها ، وقالت بسبب النزق أو الحمق أو غلبة العاطفة التي تنسيها ما قدمه لها هذا العشير من إحسان : " ما رأيت منك خيراً قط " !
  فهذا الحديث إذن وصف لحالة بعينها ، وخاص بهذه الحالة , وليس تشريعاً عامًّا ودائماً لجنس النساء .
  رابعاً : أن مناسبة الحديث ترشح ألفاظه وأوصافه لأن يكون المقصود من ورائها المدح وليس الذم , فالذين يعرفون خُلق من صنعه الله على عينه ، حتى جعله صاحب الخُلق العظيم : { وإنك لعلى خلق عظيم } .
  والذين يعرفون كيف جعل الرسول  من " العيد " الذي قال فيه هذا الحديث " فرحة " أشرك في الاستمتاع بها مع الرجال كل النساء ، حتى الصغيرات ، بل وحتى الحُيض والنفساء ! , الذين يعرفون صاحب هذا الخلق العظيم ، ويعرفون رفقه بالقوارير ، ووصاياه بهن حتى وهو على فراش المرض يودع هذه الدنيا , لا يمكن أن يتصوروه  ذلك الذي يختار يوم الزينة والفرحة ليجابه كل النساء ومطلق جنس النساء بالذم والتقريع والحكم المؤبد عليهن بنقصان الأهلية ، لنقصانهن في العقل والدين !
  وإذا كانت المناسبة يوم العيد والزينة والفرحة لا ترشح أن يكون الذم والغم والحزن والتبكيت هو المقصود , فإن ألفاظ الحديث تشهد على أن المقصود إنما كان المديح الذي يستخدم وصف " الواقع " الذي تشترك في التحلي بصفاته غالبية النساء , إن لم يكن كل النساء .
  فالحديث يشير إلى غلبة العاطفة والرقة على المرأة ، وهى عاطفة ورقة صارت " سلاحاً " تغلب به هذه المرأة أشد الرجال حزماً وشدة وعقلاً , وإذا كانت غلبة العاطفة إنما تعنى تفوقها على الحسابات العقلية المجردة والجامدة ، فإننا نكون أمام عملة ذات وجهين تمثلها المرأة , فعند المرأة تغلب العاطفة على العقلانية ، وذلك على عكس الرجل ، الذي تغلب عقلانيته وحساباته العقلانية عواطفه , وفى هذا التمايز حكمة بالغة ، ليكون عطاء المرأة في ميادين العاطفة بلا حدود وبلا حسابات , وليكون عطاء الرجل في مجالات العقلانية المجردة والجامدة مكملاً لما نقص عند الشق اللطيف والرقيق ! .
  فنقص العقل الذي أشارت إليه كلمات الحديث النبوي الشريف هو وصف لواقع تتزين به المرأة السوية وتفخر به ، لأنه يعنى غلبة عاطفتها على عقلانيتها المجردة , ولذلك كانت " مداعبة " صاحب الخلق العظيم الذي آتاه ربه جوامع الكلم للنساء في يوم الفرحة والزينة ، عندما قال لهن : إنهن يغلبن بسلاح العاطفة وسلطان الاستضعاف أهل الحزم والألباب من عقلاء الرجال ، ويخترقن بالعواطف الرقيقة أمنع الحصون ! .
  فهو مدح للعاطفة الرقيقة التي تذهب بحزم ذوى العقول والألباب , ويا بؤس وشقاء المرأة التي حرمت من شرف امتلاك هذا السلاح الذي فطر الله النساء على تقلده والتزين به في هذه الحياة ! بل وأيضاً يا بؤس أهل الحزم والعقلانية من الرجال الذين حرموا في هذه الحياة من الهزيمة أمام هذا السلاح , سلاح العاطفة والاستضعاف ! .
  وإذا كان هذا هو المعنى المناسب واللائق بالقائل وبالمخاطب وبالمناسبة وأيضاً المحبب لكل النساء والرجال معاً الذي قصدت إليه ألفاظ  : " ناقص العقل " في الحديث النبوي الشريف , فإن المراد " بنقص الدين " هو الآخر وصف الواقع غير المذموم ، بل إنه الواقع المحمود والممدوح ! .
  فعندما سألت النسوة رسول الله  عن المقصود من نقصهن في الدين ، تحدث عن اختصاصهن " برخص " في العبادات تزيد على " الرخص " التي يشاركن فيها الرجال , فالنساء يشاركن الرجال في كل " الرخص " التي رخص فيها الشارع , من إفطار الصائم في المرض والسفر , إلى قصر الصلاة وجمعها في السفر , إلى إباحة المحرمات عند الضرورات..  إلخ .
  ثم يزدن عن الرجال في " رخص " خاصة بالإناث ، من مثل سقوط فرائض الصلاة والصيام عن الحيض والنفساء , وإفطار المرضع ، عند الحاجة في شهر رمضان . . إلخ
  وإذا كان الله سبحانه وتعالى يحب أن تؤتَى رخصه , كما يحب أن تؤتَى عزائمه ، فإن التزام النساء بهذه " الرخص " الشرعية هو الواجب المطلوب والمحمود ، وفيه لهن الأجر والثواب , ولا يمكن أن يكون بالأمر المرذول والمذموم , ووصف واقعه في هذا الحديث النبوي مثله كمثل وصف الحديث لغلبة العاطفة الرقيقة الفياضة على العقلانية الجامدة عند النساء ، هو وصف لواقع محمود , ولا يمكن أن يكون ذماً للنساء ، ينتقص من أهلية المرأة ومساواتها للرجال ، بأي حال من الأحوال .
  إن العقل ملكة من الملكات التي أنعم الله بها على الإنسان ، وليس هناك إنسان رجلاً كان أو امرأة يتساوى مع الآخر مساواة كلية ودقيقة في ملكة العقل ونعمته , ففي ذلك يتفاوت الناس ويختلفون , بل إن عقل الإنسان الواحد وضبطه ذكراً كان أو أنثى يتفاوت زيادة ونقصاً بمرور الزمن ، وبما يكتسب من المعارف والعلوم والخبرات , وليست هناك جبلة ولا طبيعة تفرق بين الرجال والنساء في هذا الموضوع .
  وإذا كان العقل في الإسلام هو مناط التكليف ، فإن المساواة بين النساء والرجال في التكليف والحساب والجزاء شاهدة على أن التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث النبوي الشريف ، هي تفسيرات ناقصة لمنطق الإسلام في المساواة بين النساء والرجال فى التكليف , ولو كان لهذه التفسيرات المغلوطة نصيب من الصحة لنقصت تكاليف الإسلام للنساء عن تكليفاته للرجال ، ولكانت تكاليفهن في الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة وغيرها على النصف من تكاليف الرجال !.
  ولكنها " الرخصة " التي يؤجر عليها الملتزمون بها والملتزمات ، كما يُؤجرون جميعاً عندما ينهضون بعزائم التكاليف .
  إن النقص المذموم في أي أمر من الأمور هو الذي يمكن إزالته وجبره وتغييره ، وإذا تغير وانجبر كان محموداً , ولو كانت " الرخص " التي شرعت للنساء بسقوط الصلاة والصيام للحائض والنفساء مثلاً نقصًا مذمومًا ، لكان صيامهن وصلاتهن وهن حُيض ونفساء أمرًا مقبولاً ومحمودًا ومأجورًا لكن الحال ليس كذلك ، بل إنه على العكس من ذلك .
  وأخيرًا : فهل يعقل عاقل , وهل يجوز في أي منطق ، أن يعهد الإسلام ، وتعهد الفطرة الإلهية بأهم الصناعات الإنسانية والاجتماعية صناعة الإنسان ، ورعاية الأسرة ، وصياغة مستقبل الأمة إلى ناقصات العقل والدين ، بهذا المعنى السلبي ، الذي ظلم به غلاة الإسلاميين وغلاة العلمانيين الإسلام ، ورسوله الكريم ، الذي حرر المرأة تحريره للرجل ، عندما بعثه الله بالحياة والإحياء لمطلق الإنسان : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } الأنفال : 24, فوضع بهذا الإحياء ، عن الناس كل الناس ما كانوا قد حُملوا من الأغلال : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم } الأعراف : 157.
  وإذا كان لنا في ختام إزالة هذه الشبهة أن نزكى المنطق الإسلامي الذي صوبنا به معنى الحديث النبوي الشريف ، وخاصة بالنسبة للذين لا يطمئنون إلى المنطق إلا إذا دعمته وزكته " النصوص " ، فإننا نذكر بكلمات إمام السلفية ابن القيم التي تقول : " إن المرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والديانة " .   134
  وبكلمات الإمام محمد عبده التي تقول : " إن حقوق الرجل والمرأة متبادلة ، وإنهما أكفاء , وهما متماثلان في الحقوق والأعمال ، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل ، أي أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه وقلب يحب ما يلائمه ويُسَر به ويكره ما لا يلائمه وينفر منه " .  135
  وبكلمات الشيخ محمود شلتوت التي تقول : " لقد قرر الإسلام الفطرة التي خلقت عليها المرأة , فطرة الإنسانية ذات العقل والإدراك والفهم , فهي ذات مسئولية مستقلة عن مسئولية الرجل ، مسئولة عن نفسها ، وعن عبادتها ، وعن بيتها ، وعن جماعتها , وهى لا تقل في مطلق المسئولية عن مسئولية أخيها الرجل ، وإن منزلتها في المثوبة والعقوبة عند الله معقودة بما يكون منها من طاعة أو مخالفة ، وطاعة الرجل لا تنفعها وهى طالحة منحرفة ، ومعصيته لا تضرها ، وهى صالحة مستقيمة : { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرا } النساء  124, { فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض } آل عمران : 195.
  وإذا كانت المرأة مسئولة مسئولية خاصة فيما يختص بعبادتها ونفسها ، فهي في نظر الإسلام أيضاً مسئولة مسئولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والإرشاد إلى الفضائل ، والتحذير من الرذائل , وقد صرح القرآن بمسئوليتها في ذلك الجانب ، وقرن بينها وبين أخيها الرجل في تلك المسئولية ، كما قرن بينها وبينه في مسئولية الإنحراف عن واجب الإيمان والإخلاص لله وللمسلمين : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم } التوبة : 71.
  فليس من الإسلام أن تلقى المرأة حظها من تلك المسئولية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهى أكبر مسئولية في نظر الإسلام على الرجل وحده ، بحجة أنه أقدر منها عليها ، أو أنها ذات طابع لا يسمح لها أن تقوم بهذا الواجب ، فللرجل دائرته ، وللمرأة دائرتها ، والحياة لا تستقيم إلا بتكاتف النوعين فيما ينهض بأمتهما ، فإن تخاذلا أو تخاذل أحدهما انحرفت الحياة الجادة عن سبيلها المستقيم .
  والإسلام فوق ذلك لم يقف بالمرأة عند حد اشتراكها مع أخيها الرجل في المسئوليات جميعها خاصها وعامها , بل رفع من شأنها ، وكرر تلقاء تحملها هذه المسئوليات احترام رأيها فيما تبدو وجاهته ، شأنه في رأى الرجل تماماً سواءً بسواء , وإذا كان الإسلام جاء باختيار آراء بعض الرجال ، فقد جاء أيضاً باختيار رأى بعض النساء .
  وهكذا تضافرت الحجج المنطقية مع نصوص الاجتهاد الإسلامي على إزالة شبهة الانتقاص من أهلية المرأة ، بدعوى أن النساء ناقصات عقل ودين .
  ( فائدة ) : ولقد صدق الله العظيم إذ يقول : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد} فصلت : 53.
  ولقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يشهد شاهد من أهلها على صدق هذا المنهاج الإسلامي ، فتنشر صحيفة " الأهرام " تقريراً علمياً عن نتائج دراسة علمية استغرقت أبحاثها عشرين عاماً ، وقام بها فريق من علماء النفس في الولايات المتحدة الأمريكية ، وإذا بها تكشف عن مصداقية حقائق هذا المنهاج القرآني في تشابه الرجال والنساء في اثنين وثلاثين صفة , وتميز المرأة عن الرجل في اثنتين وثلاثين صفة .
  ولذلك آثرت أن أقدم للقارئ خلاصة هذه الدراسة العلمية ، كما نشرتها  الأهرام , تحت عنوان " اختلاف صفات الرجل عن المرأة لمصلحة كليهما "  ونصها :
  " في دراسة قام بها علماء النفس في الولايات المتحدة الأمريكية ، على مدى عشرين عاماً ، تم حصر عدد الصفات الموجودة في كل من الرجل والمرأة ، ووجد أن هناك 32 صفة مشتركة في كل منهما ، وأن 32 صفة أخرى موجودة في الرجل ، و32 صفة أخرى موجودة عند المرأة ، بدرجات مختلفة في الشدة ، ومن هنا جاءت الفروق بين صفات الرجولة والأنوثة .
  وتوصل العلماء من خلال هذه التجارب إلى أن وجود نصف عدد الصفات مشتركة في كل من الرجل والمرأة يعمل على وجود الأسس المشتركة بينهما ، لتسهيل التفاهم والتعامل مع بعضهما البعض .
  أما وجود عدد آخر من الصفات متساوياً بينهما ومختلفاً عند كل منهما في الدرجة والشهرة فمعناه تحقيق التكامل بينهما , كما توصلوا إلى أنه كي يعيش كل من الرجل والمرأة في انسجام وتناغم تام ، لابد أن يكون لدى كل منهما الصفات السيكولوجية المختلفة ، فمثلاً الرجل العصبي الحاد المزاج لا يمكنه أن يتعايش مع امرأة عصبية حادة المزاج ، والرجل البخيل عليه ألا يتزوج امرأة بخيلة ، والرجل المنطوي الذي لا يحب الناس ، لا يجوز أن يتزوج من امرأة منطوية ولا تحب الناس , وهكذا .
  وكان من نتائج هذه الدراسات الوصول إلى نتيجة مهمة ، ألا وهى أن كل إنسان يحب ألا يعيش مع إنسان متماثل معه في الصفات وكل شيء ، أي صورة طبق الأصل من صفاته الشخصية ، ومن هنا جاءت الصفات المميزة للرجولة متمثلة في : قوة العضلات وخشونتها والشهامة ، والقوة في الحق ، والشجاعة في موضع الشجاعة ، والنخوة ، والاهتمام بمساندة المرأة وحمايتها والدفاع عنها وجلب السعادة لها , كما تتضمن أيضاً صفات الحب ، والعطاء ، والحنان ، والكرم ، والصدق في المشاعر وفى القول وحسن التصرف .. إلخ .
  أما عن صفات الأنوثة ، فهي تتميز بالدفء ، والنعومة ، والحساسية ، والحنان ، والتضحية ، والعطاء ، وحب الخير ، والتفاني في خدمة أولادها ، والحكمة ، والحرص على تماسك الأسرة وترابطها ، وحب المديح ، والذكاء ، وحسن التصرف ، وغير ذلك من الصفات .
  ولذلك فمن المهم أن يكون لدى كل من الرجل والمرأة دراية كافية بطبيعة الرجل وطبيعة المرأة ، وبذلك يسهل على كل منهما التعامل مع الطرف الآخر في ضوء خصائص كل منهما , فعندما يعرف الرجل أن المرأة مخلوق مشحون بالمشاعر والأحاسيس والعواطف ، فإنه يستطيع أن يتعامل معها على هذا الأساس , وبالمثل ، إذا عرفت المرأة طبيعة الرجل ، فإن هذا سيساعدها أيضاً على التعامل معه " .   136
  تلك هي شهادة الدراسة العلمية ، التي قام بها فريق من علماء النفس في الولايات المتحدة الأمريكية والتي استغرق البحث فيها عشرون عاماً , والتي تصدق على صدق المنهاج القرآني في علاقة النساء بالرجال , الاشتراك والتماثل في العديد من الصفات , والتمايز في العديد من الصفات ، لتكون بينهما " المساواة " و " التمايز " في ذات الوقت .  137
      

الحديث الثالث والعشرون
شبهة الطاعنين في الصحابة 
  عن ابن عباس  قال :
   خطب رسول الله  فقال : " يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا - ثم قال – { كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين } إلى آخر الآية - ثم قال - ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ، ألا وإنه يجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال ، فأقول : يا رب أصيحابى  فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك .
  فأقول : كما قال العبد الصالح { وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم } , فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " .  138
   الشبهة : قد طعن بعض أهل الزيغ من الرافضة وأذيالهم في الصحابة الكرام  , واستدلوا بهذا الحديث الصحيح على ما قالوا في عدم عدالة الصحابة , بل قد وصل بهم الحد إلى أن كفروا الصحابة  , وهذا إفك مبين ، وضلال قديم .
   والجواب :  ويجاب عما سبق بما يلى :
  أولاً : نقول وبالله التوفيق : إن قضية عدالة الصحابة  أمر مجمع عليه بين
أهل السنة , ومنهم أئمة المذاهب الأربعة وغيرها من المذاهب المتبوعة كالظاهرية وأتباع الأوزاعي وغيرهم ممن انقرضوا الآن ، والمخالف لهذه القضية محجوج بالآيات المستفيضة , والسنة الصحيحة في تعديل كل صحابة النبي  .
  يقول الخطيب البغدادي :
  " والأخبار في هذا المعنى تتسع ، ولكنها مطابقة لما ورد في نص القرآن وجميع ذلك يقضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم ، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق لهم ، فهم على هذه الصفة إلا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخروج من باب التأويل ، فيحكم بسقوط العدالة ، وقد برأهم الله من ذلك , ورفع أقدارهم عنه ، على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله  فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة , وبذل المهج والأموال , وقتل الآباء والأولاد , والمناصحة في الدين , وقوة الإيمان واليقين , والقطع على عدالتهم والاعتقاد بنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذي يجيئون من بعدهم أبد الآبدين " .  139
   وهذا تأصيل متين لقضية تعديل الصحابة .
  ويزيد هذا التأصيل قوة أمر بالغ الأهمية ، وهو كاف في إثبات منهجية العلماء في تعديل الصحابة .
  ذلك أن المنطق العقلي يفترض التسليم ببعض الحتميات التاريخية ، وبمبدأ العلة والسبب المؤثر ، والذي لا يستطيع هؤلاء الجهلة أن ينكروه .
  وتأسيساً على ذلك نقول : إن التاريخ الذي كتبه أهل السنة وغيرهم لا يوجد فيه نص واحد يفيد أن الصحابة كانوا يكذبون على رسول الله  ويستحيل في المنطق العقلي أن يجتمع كل المؤرخين على اختلاف مشاربهم ـ بما فيهم الشيعة الذين حنقوا على الصحابة أيما حنق ـ على نفي الكذب أو عدم رواية شيء يفيد ذلك عن الصحابة , ثم يأتي شخص ويقول : يجوز أن يكذبوا .
  ثم إن الخلافات التي جرت بين الصحابة , والحروب التي قامت بينهم سبب قوي وعلة , دافعة أن يستغل كل طرف عيوب الآخر في التنقيص والذم ، ولم يثبت عن أحد منهم أن اتهم أحدا ـ مع حصول العداوة من بعضهم لبعض ـ بالكذب على رسول الله  ، أفلا يكون هذا السكوت دليلاً على العدم مع قيام الداعي القوي ؟!!
  أما القول بوجود النفاق فيهم فهذا ما لا يقوله المحدثون ، لأنهم عرفوا الصحابي بأنه : من رأى الرسول  مؤمناً به ومات على ذلك  أي في واقع الأمر .
  وقد تأدب الصحابة بأدب القرآن فلم يذكروا أسماء من عرف بالنفاق لا في عهد رسول الله  ولا بعد وفاته ، ولو كان ثمة مصلحة في تعيينهم لعينهم القرآن , وأشاع الفضيحة بين الناس بأسمائهم واحداً إثر آخر .
  وهذه بعض الأيات التى وردت في القرآن في قضية عدالة الصحابة , يقول الله تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } الفتح : 29 , وقوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  } التوبة : 100 ، وقوله : { لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } التوبة : 88 ، وقوله : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } الفتح : 18 .  
  وقوله   : " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم "140  ، وقوله  " لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه "  141 , وقوله  : " الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ,  ومن آذاني فقد آذى الله  ،  ومن آذى الله
يوشك أن يأخذه " .142  
  إلى غير ذلك من النصوص التي تزكيهم ، وتشيد بفضلهم ومآثرهم وصدق إيمانهم وبلائهم ، وتدعو إلى حفظ حقهم وإكرامهم وعدم إيذائهم بقول أو فعل ، وأي تعديل بعد تعديل الله لهم ؟! ، وأي تزكية بعد تزكية رسوله  الذي لا ينطق عن الهوى .
  قال الإمام ابن النجار  :
  " إن من أثنى الله سبحانه وتعالى عليه بهذا الثناء كيف لا يكون عدلاًً ؟ فإذا كان التعديل يثبت بقول اثنين من الناس , فكيف لا تثبت العدالة بهذا الثناء العظيم من الله سبحانه وتعالى ومن رسوله  " .  143
  إذن فالزعم بأن أحاديث الذود عن الحوض ، المقصود بها صحابة رسول الله  الذين آمنوا به وصدقوه وعزروه ونصروه ، تكذيب بجميع النصوص الصريحة السابقة التي تبين رضى الله عنهم ، وتشيد بفضلهم ومكانتهم ، كما أنه طعن في كلام الله جل وعلا ، إذ كيف يمكن أن يرضي الله سبحانه عن أقوام ويثني عليهم ويزكيهم ، وهو يعلم أنهم سيرتدون على أعقابهم بعد وفاة رسوله  ؟! اللهم إلا أن يقال - تعالى الله عن ذلك - : إن الله جل وعلا لم يكن يعلم ذلك حتى وقع ، وهذا هو الكفر الصراح .
  وهو أيضاً طعن في الرسول  الذي ترضّى عن صحابته ودافع عنهم  و
بشر بعضهم بالجنة فقال : " أبو بكر في الجنة ، وعمر في الجنة ، وعثمان في الجنة ، وعلي في الجنة ، وطلحة في الجنة ، والزبير في الجنة ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ، وسعد في الجنة ، وسعيد في الجنة ، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة "   144, وعن جابر  أن النبي  قال : " لن يدخل النار رجل شهد بدرا والحديبية "   145، وتوفي  وهو عنهم راض ، فهل من الممكن أن يتناقض الرسول  مع نفسه ويقول للصحابي : أنت في الجنة ثم يجده ممن ارتد عن الحوض ؟! أليس هذا طعن صريح في النبي  ؟! .
  ثانياً : من المعلوم أن الذين لقوا النبي  لم يكونوا صنفاً واحداً ، فهناك المنافقون الذي كانوا يظهرون خلاف ما يبطنون ، ومع ذلك كانوا يشهدون المشاهد والمغازي ، وهناك المرتابون ورقيقوا الدين من جفاة الأعراب الذين ارتد كثير منهم بعد وفاته  ، وقد قال سبحانه : { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم } التوبة 101 .
  وهذه الأحاديث قد ورد فيها ما يبين أسباب الذود عن الحوض ، وأوصاف أولئك المذادين عنه ، وهي أوصاف لا تنطبق على الصحابة  الذين رباهم النبي  على عينه وتوفي وهو عنهم راض ، ولذا أجمع الأئمة والشراح على أن الصحابة  غير معنيين بهذه الأحاديث ، وأنها لا توجب أي قدح فيهم .
  قال الإمام الخطابي ـ رحمه الله ـ :
  " لم يرتد من الصحابة أحد ، وإنما ارتد قوم من جفاة العرب ، ممن لا نصرة له في الدين ، وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين ، ويدل قوله : ( أصيحابي ) على قلة عددهم " .   146
   وكما يدل قوله " أصيحابي " على قلة عددهم ، فإنه يدل أيضاً على قلة صحبتهم للنبي  ولقائهم به وملازمتهم له .
  وقال الإمام البغدادي :
  " أجمع أهل السنة على أن الذين ارتدوا بعد وفاة النبي  من كندة ، وحنيفة وفزارة ، وبني أسد ، وبني بكر بن وائل ، لم يكونوا من الأنصار ولا من المهاجرين قبل فتح مكة ، وإنما أطلق الشرع اسم المهاجرين على من هاجر إلى النبي  قبل فتح مكة , وأولئك بحمد الله ومنه درجوا على الدين القويم والصراط المستقيم " .  147
  وقد اختلف العلماء في أولئك المذادين عن حوض النبي  بعد اتفاقهم على أن الصحابة  غير معنيين بذلك .
  قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ عند كلامه على بعض روايات الحديث والتي فيها قوله  : " وهل تدري ما أحدثوا بعدك " :
  " هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال :
  أحدها : أن المراد به المنافقون والمرتدون ، فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل ، فيناديهم النبي  للسيما التي عليهم ، فيقال : ليس هؤلاء مما وعدت بهم ، إن هؤلاء بدلوا بعدك : أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم .
   والثاني : أن المراد من كان في زمن النبي  ثم ارتد بعده ، فيناديهم النبي  ، وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء ، لما كان يعرفه  في حياته من إسلامهم ، فيقال : ارتدوا بعدك .
  والثالث : أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد  وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام . أهـ " .  148
  وذكر هذه الأقوال أيضا القرطبي في " المفهم "  149 ، والحافظ ابن حجر في  " الفتح "   .150
  فعلم أن الصحابة  غير داخلين في هذه الأوصاف ، ولو رجعنا إلى تعريف العلماء للصحابي لوجدنا ما يبين ذلك بجلاء ، فقد عرفوا الصحابي بأنه  " من لقي النبي  مؤمناً به ومات على ذلك " ، وهذا التعريف يخرج به المنافقون والمرتدون فلا يشملهم وصف الصحبة أصلاً .
  كيف والصحابة  هم أعداء المرتدين الذين قاتلوهم ، ووقفوا في وجوههم ، ونصر الله بهم الدين ، في أصعب الظروف وأحرجها بعد موت النبي  حين ارتد من ارتد من العرب ، حتى أظهرهم الله على عدوهم ، وأعز بهم دينه وأعلا بهم كلمته ، وهم كذلك أبعد الناس عن النفاق لما علم من صدق إيمانهم ، وقوة يقينهم ، وإخلاصهم لدينهم .
  وكذلك الحال بالنسبة للابتداع والإحداث في الدين ، فالصحابة  كان وجودهم هو صمام الأمان الذي يحول دون ظهور البدع وانتشارها ، ولم تشتد البدع وتقوى شوكتها إلا بعد انقضاء عصرهم ، ويدل على ذلك قوله  : " النجوم أمنة السماء , فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " .  151
  قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ  :
  في قوله  : " وأصحابي أمنة لأمتي , فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " , معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن فيه ، وطلوع قرن الشيطان ، وظهور الروم وغيرهم عليهم ، وانتهاك مكة والمدينة وغير ذلك ، وهذه من معجزاته  ومواقف الصحابة من البدع التي ظهرت بوادرها في زمنهم ، وشدة إنكارهم على أصحابها من أكبر الأدلة على بغضهم للبدع والإحداث في الدين ، فعن ابن عمر  أنه قال لمن أخبره عن مقالة القدرية : " إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء ، وهم منه برآء ثلاث مرات " ، وقال ابن عباس  : " ما في الأرض قوم أبغض إلىَّ من أن يجيئوني فيخاصموني في القدر من القدرية " ، ونقل البغوي إجماع الصحابة وسائر السلف على معاداة أهل البدع فقال : " وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنن على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدع ومهاجرتهم " .  152
  فهذه المواقف العظيمة للصحابة  من أهل الردة والإبتداع هي من أعظم الشواهد على صدق تدينهم ، وقوة إيمانهم ، وحسن بلائهم في الدين ، ولذا فهم أولى الناس بحوضه  لحسن صحبتهم له في حياته ، وقيامهم بأمر الدين بعد وفاته .
  ثالثاً : ليس هناك ما يمنع من أن يكون أولئك المذادون عن الحوض هم من جمع تلك الأوصاف الواردة في الأحاديث ، حتى ولو لم يكن ممن لقي النبي  طالما أنه اشترك في نفس الوصف ، وقد ورد في بعض روايات الحديث ما يقوي هذا الاحتمال ، ففي بعضها يقول  : " سيؤخذ أناس من دوني فأقول يا رب مني ومن أمتي " , وفي بعضها : " بينا أنا قائم على الحوض إذا زمرة " , وفي بعضها : " ترد علي أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه .. الحديث "  وذكر من يذادون وأنهم من هذه الأمة ، وفي بعضها : " ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني " .
  وإذا كان النبي  قد بين أن سبب الذود عن الحوض هو الارتداد كما في قوله : " إنهم ارتدوا على أدبارهم " ، أو الإحداث في الدين كما في قوله : " إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " ، فمقتضى ذلك أن يُذاد عن الحوض كل مرتد عن الدين , سواء أكان ممن ارتد بعد موت النبي  من الأعراب ، أو من كان بعد ذلك ، ومثلهم في ذلك أهل الإحداث والإبتداع ، وهذا هو ظاهر قول بعض أهل العلم .
  قال الإمام ابن عبد البر  :
  " كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض . . , قال : وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق ، والمعلنون بالكبائر ، قال : وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر والله أعلم " .  153
  وقال الإمام القرطبي ـ رحمه الله ـ :
  " قال علماؤنا - رحمة الله عليهم أجمعين- فكل من ارتد عن دين الله ، أو أحدث فيه ما لا يرضاه ولم يأذن به الله ، فهو من المطرودين عن الحوض المبعدين عنه " .  154
  وكونه  قد عرفهم , لا يلزم منه أنه عرفهم بأعيانهم ، بل بسمات خاصة كما جاء في رواية مسلم : " ترد عليَّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله " , قالوا : يا نبي الله أتعرفنا ؟ قال : " نعم لكم سيما ليست لأحد غيركم ، تردون عليّ غراً محجلين من آثار الوضوء ، وليُصدن عني طائفة منكم فلا يصلون ، فأقول : يارب هؤلاء من أصحابي فيجيبني ملك فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ " .
  فقوله " منكم " أي من الأمة ، وهذا يعني أنهم يحشرون جميعاً بنفس سيما
المؤمنين كما في حديث الصراط : "... , وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها . . "  مما يدل على أنهم يحشرون مع المؤمنين ويعرفهم النبي  بسمات هذه الأمة .
  رابعاً : هذه الأحاديث رواها الأئمة في كتب الصحاح والمسانيد والمعاجم عن عشرات الصحابة  منهم عمر و أبو هريرة و عائشة ، و أم سلمة ، و حذيفة ، و أبوسعيد الخدري ، و ابن مسعود ، و أنس ، و سهل بن سعد ، و ابن عباس ، فإذا كان هؤلاء هم المعنييون بهذه الأحاديث ، فهل من المعقول أن يثبتوها ويرووها لنا كما جاءت ، مع أن فيها ما يحكم بردتهم وتبديلهم وإحداثهم في الدين بعد نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ؟! .
   خامساً : لو كان المقصود بهذه الأحاديث الصحابة الذين وجه إليهم رسول الله  كلامه ، لما احتاج عليه  أن يقول : " ليردن علي الحوض أقوام " ، أو " بينا أنا قائم إذا زمرة " ، أو " ليردن علي ناس من أصحابي الحوض "  أو " ثم يؤخذ برجال من أصحابي " ، ولتوجه بالخطاب إليهم صراحة كأن يقول : " لتردن علي الحوض ثم لتختلجن دوني " ، وما أشبه ذلك ، مما يقطع بأن الصحابة  غير معنيين بهذه الأحاديث .
  سادساً : من أين لهؤلاء المدعين تحديد بعض الصحابة بأنهم من المرتدين المحدِثين المذادين عن حوضه  ، وتحديد آخرين بأنهم من المستثنين من ذلك  والنصوص لم يرد فيها أي تحديد أو تقييد ، أليس ما جرى على أولئك المذادين يمكن أن يجري على غيرهم ؟ وما استدلوا به على ردتهم يمكن أن يستدل به خصومهم على ردة غيرهم – ونحن لا نقول بذلك - طالما أن النصوص لم يرد فيها تحديد .
  فإن قيل : قد ثبتت جملة الأحاديث تثني على هؤلاء الصحابة المستثنين وتثبت أنهم من أهل الجنة ، فنقول : وكذا الصحابة الذين تحاولون إدخالهم فيمن يرتد عن الحوض ، هناك عشرات الأدلة من الكتاب والسنة تثبت رضى الله عنهم ، وتزكية رسوله  لهم ، وتثني عليهم غاية الثناء ، وأنهم هم المؤمنون حقاً ، وتثبت بالدليل القاطع أنهم من أهل الجنة .
  وبذلك يتضح الحق ، وتنكشف الشبهة ، ويظهر فساد الاستدلال بهذه الأحاديث على الطعن في صحابة رسول الله  ، وبراءتهم مما نسبوا إليه ، فرضي الله عنهم وأرضاهم ، وحشرنا في زمرتهم .
         
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 6:12 pm

الحديث الرابع والعشرون
نوم النبي  عند أم سليم وأم حرام
  عن أنس بن مالك  قال :
  " إن أم سليم كان تبسط للنبى  ، نطعاً فيقيلُ عِندها على ذلك النطع ، قال : فإذا نام  ، أخذت من عَرَقِه وشعره فجمعتهُ فى قارورة ، ثم جمعته فى سُك وهو نائم .
  قال : فلما حضرَ أنسَ ابن مالك الوفاة أوصى إلىَّ أن يُجعل فى حَنوطِه من ذلك السك ، قال : فجُعِل فى حَنوطه " .   155
  وعن أنس بن مالك  قال :
  " كان رسول الله  يدخل على أم حرام بنت ملحان ، فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت ، فدخل عليها رسول الله  ، فأطعمْتهُ ، وجعلت تفْلِى رأْسُه، فنامَ رسول الله  ، ثم استيقظ وهو يضحك ، قالت : فقلت  وما يضحكك يا رسول الله ؟
  قال : " ناس من أمتى عُرضوا على غُزَاة فى سبيل الله ، يركبون ثبج هذا البحر مُلوكاً على الأسِرة , أو مِثلَ المُلوك على الأَسِرة " ، شك – إسحاقُ راوي الحديث-  قالت : فقلت : يا رسولَ الله ، ادعُ الله أن يجعلنى منهم ، فدعا لها رسول الله  ، ثم وضع رأسَهُ ، ثم استيقظ وهو يضحك .
  فقلتُ : وما يضحكك يا رسول الله ؟  
  قال : " ناسٌ من أمتى عُرضوا على غُزاة فى سبيل الله - كما قال فى الأول-" , قالت : فقلت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلنى منهم .
  قال : " أنت من الأولين " , فركبت البحر فى زمن معاويةَ بن أبى سفيان فصِرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت " .  156
   الشبهة : بالحديثان السابقان طعن أعداء السنة المطهرة فى عدالة الإمام البخارى ، وفى صحيحه الجامع ، وزعموا أن الروايات السابقة يلزم منها أن تكون هناك علاقات خاصة مع النبى  ، وهو الذى أدبه ربه فأحسن تأديبه .
  ولقد قال واحد من هؤلاء : " يريدنا البخارى أن نصدق أن بيوت النبى التى كانت مقصداً للضيوف ، كانت لا تكفيه ، وأنه كان يترك نساءه بعد الطواف عليهن ليذهب للقيلولة عند امرأة أخرى ، وأثناء نومه كانت تقوم تلك المرأة بجمع عرقه وشعره ، وكيف كان يحدث ذلك . . , يريدنا البخارى أن نتخيل الإجابة . . ـ ونعوذ بالله من هذا الإفك ـ ثم يؤكد البخارى على هذا الزعم الباطل بحديث أم حرام القائل ، كان رسول الله يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه ، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله فأطعمته ، وجعلت تفلى رأسه ، فنام رسول الله ثم استيقظ وهو يضحك ، فقالت وما يضحكك يا رسول الله ؟ . .  إلخ .
  فالنبى على هذه الرواية المزعومة تعود الدخول على هذه المرأة المتزوجة ، وليس فى مضمون الرواية وجود للزوج ، أى : تشير الرواية إلى أنه كان يدخل عليها فى غيبة زوجها ، ويصور البخارى كيف زالت الكلفة والاحتشام بين النبى وتلك المرأة المزعومة ، إذ كان ينام بين يديها وتفلى له رأسه وبالطبع لابد أن يتخيل القارئ موضع رأس النبى بينما تفليها له تلك المرأة فى هذه الرواية الخيالية ، ثم بعد الأكل والنوم يستيقظ النبى من نومه ، وهو يضحك ويدور حديث طويل بينه وبين تلك المرأة نعرف منه أن زوجها لم يكن موجوداً وإلا شارك فى الحديث , وصيغة الرواية تضمنت كثيراً من الإيحاءات والإشارات المقصودة ، لتجعل القارئ يتشكك فى أخلاق النبى .
  فتقول الرواية " كان رسول الله يدخل على أم حرام فتطعمه … " والبخارى هنا ينزل بالنبى الى درك التشبيه بالحيوانات الأليفة التى تدخل البيوت ، فيعطف عليها حريم البيت ويطعمونها , ولاحظ اختيار لفظ الدخول على المرأة  ولم يقل كان يزور ، ثم يقول عن المرأة " وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت " فهنا تنبيه على أنها متزوجة ، ولكن ليس لزوجها ذكر فى الرواية ليفهم القارئ أنه كان يدخل على تلك المرأة المتزوجة فى غيبة زوجها ، ثم اختيار اسم المرأة " أم حرام " ليتبادر إلى ذهن القارئ أن ما يفعله النبى حرام وليس حلالاً , ثم يضع الراوى - بكل وقاحة- أفعالاً ينسبها للنبى -عليه السلام- لا يمكن أن تصدر من أى إنسان على مستوى متوسط من الأخلاق الحميدة ، فكيف بالذى كان على خلق عظيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، فيفترى الراوى كيف كانت تلك المرأة تطعمه ، وتفلى له رأسه ، وينام عندها ، ثم يستيقظ ضاحكاً ويتحادثان ـ نعوذ بالله من الافتراء على رسول الله  ـ ويتركنا البخارى بعد هذه الإيحاءات المكشوفة ، نتخيل ما معنى أن يخلو رجل بامرأة متزوجة فى بيتها ، وفى غيبة زوجها ، وأنها تطعمه وتفلى له رأسه ، أى أن الكلفة قد زالت بينهما تماماً ، وأنها تعامله ، كما تعامل زوجها , ثم يقول " وجعلت تفلى له رأسه فنام رسول الله ثم استيقظ … " ولابد أن القارئ سيسأل ببراءة : وأين نام النبى ، وكيف نام ، وتلك المرأة تفلى له رأسه ، وآلاف الأسئلة تدور حول هدف واحد هو ما قصده البخارى بالضبط " .  157
   والجواب :
  أولاً : لنا أن نتساءل : لماذا كل هذا الحقد على الإمام البخارى ؟ ولماذا الحمل على البخارى - رحمه الله - فى هذه الرواية ، والتشنيع عليه ، مع أن غيره من علماء الحديث شاركه فى رواية هذا الحديث ؟  
  إنه لم يخترع ، ولم يؤلف ، ولم يشطح به الخيال ! .
  لقد نقل ما سمعه من شيوخه الثقات ، مما سمعوه من شيوخهم ، إلى أن وصل النقل إلى الرسول  ، أو إلى الصحابى الذى روى عن الرسول  .
  والناقل لا يطلب منه إلا التأكد من صحة ما نقل ، واستيفاء شروط النقل , ولا يكون مسئولاً عن ذات الشئ المنقول ، لأن ناقل الكفر ليس بكافر بمجرد نقله لذلك .
  لقد أعماهم الحقد على كل ما يتصل بالسنة ، ورواتها ، فصبوه صباً عليهم ، واختص البخارى بأشد أنواع الحقد , لأنه جمع أصح الروايات ، وبذل أقصى الجهود .
  وذنب البخارى عندهم أنه أخلص , وبذل حياته وماله فى جمع السنة ، ونقد الحديث ، واستخلص صحيحه من صفوة الصفوة من الحديث ، ورسم المناهج  وقعد القواعد ، وأصل الأصول .
  من أجل ذلك عابوه وشتموه ، وحاولوا تشويه صورته ، ونطحوه بقرون حقدهم ، يريدون القضاء على جهوده ، وإبادة عمله ، ولو استطاعوا لأخرجوا رفاته ، فصبوا عليه ويلاتهم , ولكن هيهات فهم كما قال القائل :
كناطح صخرة يوماً ليوهنهــا    فلم يضرها وأوهى قرنه الوعــل
  ثانياً : وماذا فى قصة أم حرام !
  إن البخارى - رحمه الله - ذكرها فى صحيحه فى كتاب الاستئذان ، باب " من زار قوماً فقال عندهم " .
  والقوم يطلق فى الغالب على الجماعة ، وكأن البخارى يرى أن ما يرويه من الحديث فى زيارة واحد وهو الرسول  لجماعة , وهم أهل البيت الذى فيه أم حرام .
  وهذا من فقهه فى تراجمه الذى رفع مكانته بين العلماء ، وأثار إعجاب كل متابع له فى فهم معانى الحديث .
  ثم روى البخارى الحديث عن أنس بن مالك ، وأم سليم وهى أم أنس ، وأم حرام وهى أخت أم سليم ، وهنا يظهر جلياً أن البيت الذى كان يقيل فيه رسول الله  هو بيت فيه أم سليم ، وأختها أم حرام ، وأنس بن أم سليم .
  وقد ورد فى المسند عن أنس : " أن رسول الله  فى بيت أم سليم ، وأم سليم ، وأم حرام خلفنا ، ولا أعلمه إلا قال : أقامنى عن يمينه " .  158
  فأى ضير فى أن يكرم الرسول  أنساً خادمه ، فيدخل بيته يقيل فيه ، ويأكل ، وفى هذا البيت أمه ، وخالته ، وقد يكون فيه غيرهما زوج أم سليم ، أو زوج أم حرام ، أو زوجهما .
  وسبب آخر لإكرام الرسول  ، أهل هذا البيت بالزيارة ، مع أن غيرهم كثير ممن يود أن يتشرف بالرسول  فى مثل هذه الزيارة , لقد استشهد أخوهما فى سبيل الله ، فكان رسول الله  يواسيهما معاً بهذه الزيارة ، حيث أنهما كانتا فى دار واحدة ، كل واحدة منهما فى غرفة من تلك الدار .  159
  ثالثاً : من أين جزم أحمد صبحى ، ومن قال بقوله بانفراد رسول الله  مع أم حرام أو أم سليم ؟! وكيف قطع بأن أحداً لم يكن معهما ؟!
  وما الذى يمنع أنساً وهو خادمه من الدخول إلى بيت أمه ، وهو نفسه بيت خالته ؟ وأين أخوه اليتيم ، ومن كان من الأزواج حاضراً ؟! , بل وأين من كان من الأقارب ، وكل من حول قباء من الأنصار الذين لا يتركون الرسول  وهو يزور قباء ، وهم من أخواله الذين نزل بينهم أول قدومه المدينة ؟! .
  لقد كان الصحابة يحرصون على مرافقة الرسول  وكانوا يسعدون بصحبته كلما خرج من بيته ، وكانوا يلتمسون رؤيته وسماعه ، ورؤية ما يصدر منه .
  فكيف يزور أم حرام إذا ذهب إلى قباء فلا يجد أحداً يقابله ، أو يصلى معه ، أو يقابله فى الطريق فيسير معه حتى يسمح له بالانصراف ؟!
  وكيف يدخل بيتاً ، فلا يُدخل إليه فيه من أراد ، ممن له حاجة ، أو مسألة ، أو به رغبة للاستفادة من تجدد رؤيته له ، وسعادته بمجالسته  ؟! .
  أمور كلها تعد من قبيل الشواهد التى لا تخطئ ، والدلالات التى تورث اليقين ، بأن النبى  حين زار قباء ودخل على أم حرام فى بيتها ، كان معهم غيرهما ، ولاسيما وجود أنس بن مالك على ما ورد فى روايات الحديث .
  وهذه الشواهد هى التى جعلت الإمام البخارى يعنون لباب القصة بقوله : " باب من زار قوماً فقال عندهم " وتأمل جيداً : " قوماً " .
  رابعاً : المتأمل فى الحديث يجد قول الراوى : " فأطعمته " : أى قدمت له طعاماً ، و " جعلت تفلى رأسى " .
  فهل يناسب هذا القول : " وجعلت تفلى رأسه " حال الرسول  وهو يأكل ؟ أو حال أنس وهو جالس إلى خالته حال قيام رسول الله  بتناول الطعام ؟ , وألا يمكن أن يقال : إن الرسول  بادر إلى النوم قبل تناول الطعام ، فأطعمت أم حرام أنساً ، وجعلت تفلى رأسه ، حتى استيقظ النبى  وهو يضحك ، ويحكى ما رآه من الصحابة , وهم فى السفن كالملوك على الأسرة غزاة فى سبيل الله ؟  يجوز .
  إلا أن الذين فى قلوبهم مرض لا يفطنون لذلك ، ولا يسمعون كلام الحافظ الدمياطى وهو يقول :
  " ليس فى الحديث ما يدل على الخلوة مع أم حرام ، ولعل ذلك كان مع ولد، أو خادم ، أو زوج ، أو تابع " .
  ولا يهمهم قول ابن الجوزى : " سمعت بعض الحفاظ يقول : كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب ، أم رسول الله  من الرضاعة " .
  ولا يعبئون بقول ابن وهب حيث قال : " أم حرام إحدى خالات الرسول  من الرضاعة " .  160
  لا يهمهم كل ذلك ، ولا يرد على خاطرهم قول أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها ـ : " لا والله ما مست يد رسول الله  يد امرأة قط ، غير أنه يبايعهن بالكلام " .  161
  يقول فضيلة الأستاذ الدكتور / طه حبيشى رداً على أحمد صبحى منصور ، وعلى من قال بقوله قال :
  " إن قصة أم سليم ، وأم حرام ، والتى لم يتورع أحمد صبحى منصور أن يتخذ منها تكأة للتشويش على شخصية النبى  ، وهو يوهم البسطاء أنه من المحبين له المدافعين عنه ، وهو لا يعلم أن التفصيل فى نفى النقص عن الكاملين نقص ، خصوصاً إذا دخل فى شئ من التفصيل الممل ، أو لعل صاحبنا يعلم هذه الجزئية ، ويستغلها فى تشويه صورة النبى   ، والتقليل من هيبته فى نفوس أتباعه ، وهذا مطمع قد طمع فيه من هم أكثر من صاحبنا بصراً بالمناهج ، ومن هم أكثر منه حيطة بأساليب البحث والدرس ، ومن هم أشد منه قوة وأعز نفراً ، فما استطاعوا أن يظهروا به وما استطاعوا أن ينالوا من جدار العز للنبى  نقباً .
  والشئ الذى لم يعرفه هؤلاء ، أن الروايات مجمعة تقريباً على أن النبى كان يكثر من التردد ، والأكل والشرب ، عند أم سليم وأم حرام .
  والباحث الحصيف يسأل : هل هناك شئ من العلاقة بين هاتين المرأتين الجليلتين ؟
  والروايات تجيب أن أم سليم وأم حرام أختان يقال لأحدهما " الرميضاء "، وللأخرى " الغميصاء " ، لا بعينها ، فمنهم من يقول : إن الرميصاء بالراء هى أم حرام ، والغميصاء بالغين هى أم سليم ، ومنهم من يعكس .  162
  والرميصاء ، والغميصاء : لفظان يدلان على حالتين فى العين متشابهتين ، وهما حالتان خلقيتان ليس بالعين معهما من بأس .
  وأم سليم هى أم أنس بن مالك  ، وأم حرام خالته ، وأنس بن مالك كان فى صباه يخدم النبى  عشر سنين , وكان النبى يعامله معاملة تناسب أخلاق النبوة ولقد جاء في الصحيح أن أنس بن مالك قال : " خدمت النبى عشر سنين  فما قال لى لشئ فعلته لم فعلته ، ولا لشئ تركته لما تركته " .
  هؤلاء ثلاثة ليسوا من المجاهيل فى الصحابة والصحابيات ، وما الذى جعل علاقة النبى بهم على هذا المستوى من الاهتمام ، وكثرة السؤال عنهم .
  إن هذا لا يكون إلا فى حالة واحدة ، وهى أن تكون هناك درجة من القرابة تجعل المرأتين من محارم النبى  ، سواء أكان ذلك من جهة النسب , كما قال بعض المؤرخين ، أو كان من جهة الرضاعة كما قال البعض الآخر .  163
  وإلا فهل يمكن عقلاً للنبى  ، أن يخالف الناس إلى ما ينهاهم عنه ؟
  وهل يمكن عقلاً أو اتفاقاً أن تقوم علاقة غير مشروعة وحاشاه بينه وبين أختين فى وقت واحد ؟
  وهل يجيز المنطق أو العادة أن يسمح النبى  لغير قريبه من الصبيان أن يخدمه فى بيته عشر سنوات كاملات ؟
  وهل يعقل أن يترك أهل الكفر والنفاق - زمن النبوة - مثل هذا الموقف دون استغلاله فى الطعن فى النبى  ، وفى نبوته ؟
  أمور كلها تعد من قبيل الشواهد التى لا تخطئ ، والدلالات التى تورث اليقين بأن النبى  ، كان قريباً قرابة محرمة لأم سليم ، وأختها أم حرام .
  وخصوصاً وأن بعض الروايات تقول : " كان النبى  ، يدخل بيت أم سليم
فينام على فراشها وليست فيه "   164، ورواية تقول : نام النبى  ، فاستيقظ وكانت تغسل رأسها ، فاستيقظ وهو يضحك ، فقالت : يا رسول الله أتضحك من رأسى ؟ قال : " لا " . 165  
  وقد يقول قائل : قريبات النبى  معروفات ، وليس منهن أم سليم , ولا أم حرام ؟! .
  والجواب : أننا نتحدث عن مجتمع لم يكن يمسك سجلات للقرابات ، وخاصة إذا كانت القرابة فى النساء ، فهناك قريبات كثيرات أغفلهن التاريخ فى هذا المجتمع وأهملهن الرواة .166  
  قال الإمام النووى - رحمه الله - قوله :
  " أن النبى  كان يدخل على أم حرام بنت ملحان ، فتطعمه ، وتفلى رأسه ، وينام عندها " .
  اتفق العلماء على أنها كانت محرماً له  ، واختلفوا فى كيفية ذلك .
  فقال ابن عبد البر وغيره : كانت إحدى خالاته من الرضاعة ، وقال آخرون  بل كانت خالة لأبيه أو لجده ، لأن عبد المطلب كانت أمه من بنى النجار .
  وقوله : " تفلى " بفتح التاء وإسكان الفاء وكسر اللام أى : تفتش ما فى الرأس ، وتقتل القمل منه ، ولا يعنى وجود ذلك فى رأس النبى  .
  وأخذ من ذلك الحديث جواز فلى الرأس ، وقتل القمل منه ، وجواز ملامسة المحرم فى الرأس وغيره مما ليس بعورة ، وجواز الخلوة بالمحرم والنوم عندها ، وهذا كله مجمع عليه " .  167
  وقال الدكتور طه حبيشى :
  " بقى أن يتشدق صاحبنا فيقول : هب أن ذلك صحيح " وهو صحيح قطعاً " فكيف يدخل النبى بيتاً لمحرمة ، وهى أم حرام من غير إذن زوجها عبادة بن الصامت ؟
  والجواب : أن أم حرام كانت قد تزوجت مرتين ، تزوجت مرة قبل عبادة بن الصامت وأنجبت ، ثم قتل ابنها شهيداً فى إحدى معارك الإسلام ، وبقيت بغير زواج لكبر سنها ، ثم شاء الله أن تتزوج بعبادة بن الصامت ، ويبقى معها بعد انتقال النبى  ، وقد وقع ذلك فى كلام أنس بن مالك نفسه ، وهو يحدث عن خالته بالحديث الذى هو موضوع كلامنا الآن ، ففى بعض روايات الحديث قال " ثم تزوجت بعد ذلك بعبادة بن الصامت " .
  أما هذه الجملة التى وقع عليها صاحبنا وهى الواردة فى بعض روايات هذا الحديث وهى - كانت تحت عبادة بن الصامت - فقد أجمع العلماء أن هذه الجملة معترضة ، وهى من كلام الراوى يشرح بها حال أم حرام حين ذهبت إلى بلاد الشام ، أو إلى جزيرة قبرص، وماتت بها .
  قال الحافظ ابن حجر :
  " والمراد بقوله هنا : " وكانت تحت عبادة " الإخبار عما آل إليه الحال بعد ذلك ، وهو الذى اعتمده النووى ، وغيره تبعاً لعياض" .  168
  أما ما زعمه أحمد صبحى ، وحاول إ يهام القارئ به من أن روايات الحديث فيها أن النبى  ، كان يبادل أم حرام كلمات غير مقبولة ، وحاشاه .
  فيقول رداً على ذلك فضيلة الدكتور طه حبيشى :
  " نعم ، النبى  ، كان عند أم حرام ، ونام عندها ، واستيقظ يضحك ، وسألته أم حرام عن الأمر الذى يضحك منه ، فأخبرها أن أناساً من أمته سيركبون البحر ظهره ، ووسطه ، ويكونون فيه ، وهو أمر فيه أمثال الملوك على الأسرة ، وهذا أمر يسعد النبى  ، ويرضيه ، لما فيه من المخاطر ما فيه  إن فيه خطر ركوب البحر ، وفيه الجهاد وما فى الجهاد من أهوال ، وفيه احتمال الموت والشهادة ، وأم حرام تعرف ذلك وتدركه ، ثم تطمع فيه وتبتغيه  وتسأل النبى  الذى لا ترد دعوته وتقول له : سل الله أن يجعلنى منهم ، والنبى  سأل ربه ، واستجاب له ربه عز وجل ، فسألته أم حرام بعد أن نام المرة الثانية فى الوقت نفسه وقام يضحك : مم تضحك يا رسول الله ؟  فقال كما قال فى الأولى : إن أناساً من أمتى سيركبون البحر مثل الملوك على الأسرة ، قالت : يا رسول الله أأنا منهم , قال : "  لا ، أنت من الأولين " .
  ومرت الأيام وركبت أم حرام مع زوجها ، وعلى ساحل البحر ركبت دابة فسقطت من على دابتها فماتت ، وقبرها على رأى البعض : ما يزال ظاهراً ،
يعرفه الناس فى قبرص باسم قبر المرأة الصالحة .
  أى حديث هذا الحديث الذى جرى بين النبى وبين أم حرام ، إنه حديث عن المخاطر والأهوال ، وهو حديث عن الموت والشهادة ، وهو حديث عن استكمال الذات إلى ساعة الممات ، وهو حديث فرح النبى  ، بأمته حين ينتشرون بالدين ويحملون لواء الجهاد .
  إن مثل هذا الحديث : لهو حديث الرجولة والكمال ، وهو حديث الطمع فى رحمة الله ورضوانه , فما علاقة مثل هذا الحديث الشاق بأحاديث الرضا ومتابعة هوى النفس .
  إن المرء ليسمع الحديث المستقيم فيدركه على وجهه ، إن كان سليم النفس حسن الطوية , وهو ينحرف به إذا كان إنساناً مريض النفس معوجاً ، وهل ينضح البئر إلا بما فيه ، وهل يمكن أن نتطلب من الماء جذوة نار؟ أو نغترف من النار ماء ؟
  وقديماً قالوا : إن كل إناء بما فيه ينضح .
  أشهد أن الله عز وجل قد قال فى نبيه  : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .  169
         


الحديث الخامس والعشرون
زواج النبي  بأكثر من واحدة
 عن أنس  قال :
  قال رسول الله  : " حُبب إلي : النساء , والطيب , وجعلت قرة عيني في الصلاة " .   170
   الشبهة : اتخذ أعداء الله هذه الحديث للطعن في رسول الله  حيث وصفوه  بأنه كان مولع بالنساء وحاشاه , لذلك تزوج أكثر من واحدة ، ثم كيف يأمر أمته بشئ ثم يخالفه هو ، وهو زواجه بأكثر من أربعة ؟ّ!
   الجواب : قلت : المصنف ـ : إن تعدد زوجات النبـي  كانت لحكمة أبعد وأعمق مما تصوره هؤلاء ، فزواجه لم يكن لغرض دنيوي فحسب ، ولو كان دافع الزواج حاجة الجسد فقط لكان ذلك في شبابه أولى ، فقد تزوج رسول الله  من خديجة وعمره خمس وعشرون سنة ، وهي تكبره بخمس عشرة سنة ، وبقيت وحيدة عنده حتى وفاتها ، ثم تزوج بعد وفاتها بثلاث سنين من سودة بنت زمعة , وعائشة بنت الصديق , ثم بقية أزواجه ، وقد كان زواجه من عائشة وسودة وعمره ثلاث وخمسون سنة .
  وقد كانت جميع أزواجه ـ خلا عائشة – ثيبات ، وفيهن من لا يرغب بزواجها لكبر سنها كسودة ، وفيهن من قاربت الأربعين كأم سلمة  .
  وأما عائشة ـ رضي الله عنها ـ فكانت البكر الوحيدة في نسائه وأصغرهن ، وهنا يلمز هؤلاء فارق السن بينها وبين رسول الله  ، ويغفلون عن خصائص البيئة العربية التي لا تجعل لفارق السن كبير اعتبار ، إذ تنصرف الهمم لإنجاب الذرية ، وكلما صغر عمر المرأة زادت خصوبتها .
  ثم إن هؤلاء يرون من زواجه  من عائشة ما يستحق القدح ، ولا يرون ذلك في زواج إبراهيم  من هاجر وقد دخل عليها وعمره خمس وثمانون سنة .      171
  فلو كان المراد من الزواج الجرى وراء الشهوة , أو السير مع الهوى , أو مجرد الاستمتاع بالنساء لتزوج فى سن الشباب لا فى سن الشيخوخة , ولتزوج الأبكار الشابات , لا الأرامل المُسنات , وهو القائل لجابر بن عبد الله حين جاءه وعلى وجهه أثر التطيب والنعمة : " هل تَزوجت بِكرا أم ثيباً " فَقلت: تزوجتُ ثيباً فَقَالَ : " هلا تزوجت بِكرا تلاعبها وتلاعبك " . 172
  فالرسول الكريم أشار عليه أن يتزوج البكر وهو  يعرف طريق الاستمتاع وسبيل الشهوة , فهل يعقل أن يتزوج الأرامل ويترك الأبكار ويتزوج فى سن الشيخوخة , ويترك سن الصبا إذا كان غرضه الاستمتاع والشهوة ؟!
  إن الصحابة كانوا يفدون رسول الله  بمهجهم وأرواحهم ولو أنه طلب الزواج لما تأخر أحد منهم عن تزويجه بمن يشاء من الفتيات الأبكار الجميلات فلماذا لم يعدد الزوجات فى مقتبل العمر وريعان الشباب , ولماذا ترك الزواج بالأبكار وتزوج الثيبات ؟!
  إن هذا بلا شك يدفع كل تقول وافتراء , ويدحض كل شبهة وبهتان , ويرد على كل أفاك أثيم يريد أن ينال من قدسية الرسول  أو يشوه سمعته , فما كان زواج الرسول بقصد الهوى أو الشهوة وإنما كان لحكم جليلة وغايات نبيلة وأهداف سامية , سوف يقر الأعداء بنبلها وجلالها إذا ما تركوا التعصب الأعمى , وحكموا منطق العقل , والوجدان , وسوف يجدون فى هذا الزواج : " المثل الأعلى " في الإنسان الفاضل الكريم , والرسول النَّبِـي الرحيم الذى يضحي براحته فى سبيل مصلحة غيره وفى سبيل مصلحة الدعوة والإسلام .
  قلت ـ المصنف ـ : ولا مانع أن نذكر هنا طرف من أسباب تزوج النبي  بأكثر من واحدة ، والحكمة من ذلك والله المستعان :      
  أولا : الحكمة التعليمية .
  لقد كانت الغاية الأساسية من تعدد زوجات الرسول  هى تخريج بضع معلمات للنساء يعلمنهن الأحكام الشرعية , فالنساء نصيف المجتمع , وقد فُرض عليهن من التكليف ما فرض على الرجال .
  وقد كان الكثيرات منهن يستحيين من سؤال النبـي  عن بعض الأمور الشرعية , وخاصة المتعلقة بهن كأحكام الحيض والجنابة والنفاس والأمور الزوجية وغيرها من الأحكام , وقد كانت المرأة تغالب حياءها حينما تريد أن تسأل الرسول الكريم عن بعض هذه المسائل .
  كما كان من خلق الرسول  الحياء الكامل وكان ـ كما تروى السنة النبوية - أشد حياء من العذراء فى خدرها , فما كان  يستطيع أن يجيب عن كل سؤال يعرض عليه من جهة النساء بالصراحة الكاملة , بل كان يكنى فى بعض الأحيان , ولربما لم تفهم المرأة عن طريق الكناية مراده  .
  تروى السيدة عائشة - رضى الله عنها - أن امرأة من الأنصار سألت النبي  عن غُسلها فى المحيض , فعلمها  كيف تغتسل فقَال : " خذي فرصة من مسك فتطهري بها " قَالَت : كيف أتطهر؟  قَال : " تطهري بها " قَالَت : كَيف قَال : " سبحان الله تطهري " .  173
  قالت السيدة عائشة : فاجتذبتها من يدها فقلت : ضعيها فى مكان كذا وكذا وتتبعى بها أثر الدم , وصرحت لها بالمكان الذى تضعها فيه .
  فكان  يستحى من مثل هذا التصريح , وهكذا كان القليل أيضا من النساء من تستطيع أن تتغلب على نفسها وعلى حيائها فتجاهر الرسول  بالسؤال عما يقع لها .
  وكانت المرأة منهن تأتى إلى السيدة عائشة في الظلام لتسألها عن بعض أمور الدين , وعن أحكام الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من الأحكام , فكان نساء الرسول  خير معلمات وموجهات لهن وعن طريقهن تفقهن النساء في دين الله .
 ثم أنه من المعلوم أن السنة المطهرة ليست قاصرة على قول النبـي  فحسب
بل هي تشمل قوله وفعله وتقريره , وكل هذا من التشريع الذى يجب على الأمة اتباعه , فمن ينقل لنا أخباره وأفعاله  في المنزل غير هؤلاء النسوة اللواتي أكرمهن الله , فكن أمهات للمؤمنين وزوجات لرسوله الكريم فى الدنيا والآخرة ؟!
  لا شك أن لزوجاته الطاهرات ـ رضوان الله عليهن ـ أكبر الفضل في نقل جميع أحواله وأطواره وأفعاله المنزلية عليه أفضل الصلاة والتسليم .
  ثانيًا : الحكمة التشريعية .
  وهذه الحكمة ظاهرة تدرك بكل بساطة , وهي أنها كانت من أجل إبطال بعض العادات الجاهلية المستنكرة , ونضرب لذلك مثلًا بدعة التبنى التى كان يفعلها العرب قبل الإسلام , فقد كانت دينا متوارثاً عندهم , يتبنى أحدهم ولدًا ليس من صُلبة ويجعله فى حكم الولد الصلبي , ويتخذه ابنا حقيقياً له حكم الأبناء من النسب في جميع الأحوال , فى الميراث والطلاق والزواج ومحرمات المصاهرة , ومحرمات النكاح إلى غير ما هنالك مما تعارفوا عليه وكان ديناً تقليدياً متبعاً في الجاهلية .
  فكان الواحد منهم يتبنى ولد غيره فيقول له : أنت ابنى أرثك وترثنى , وما كان الإسلام ليقرهم على باطل , ولا ليتركهم يتخبطون في ظلمات الجهالة فمهد لذلك بأن ألهم رسوله  أن يتبنى أحد الأبناء - وكان ذلك قبل البعثة - فتبنى  زيد بن حارثة على عادة العرب قبل الإسلام .
  وفي سبب تبنيه قصة من أروع القصص , وحكمة من أروع الحكم ذكرها المفسرون وأهل السير لا يمكننا الآن ذكرها لعدم اتساع المجال , وهكذا تبنى الرسول الكريم زيد بن حارثة وأصبح الناس يدعونه بعد ذلك اليوم زيد بن محمد .    174
  وقد زوجه  بنت عمته زينب بنت جحش الأسدية وقد عاشت معه مدة من الزمن , لكنها لم تطل فقد ساءت العلاقات بينهما فكانت تغلظ له القول , وترى أنها أشرف منه لأنه كان عبدًا مملوكًا قبل أن يتبناه الرسول  وهي ذات حسب ونسب .
  ولحكمة يريدها الله تعالى طلق زيد زينب , فأمر الله رسوله  أن يتزوجها ليبطل بدعة التبنى , ويقيم أسس الإسلام , ويأتى على الجاهلية من قواعدها ولكنه  كان يخشى من ألسنة المنافقين والفجار أن يتكلموا فيه ويقولوا تزوج محمد امرأة ابنه , فكان يتباطأ , حتى نزل العتاب الشديد لرسول الله  فى قوله جل وعلا: { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } الأحزاب :37 ، وهكذا انتهى حكم التبني , وبطلت تلك العادات التى كانت متبعة في الجاهلية , وكانت ديناً تقليدياً لا محيد عنه , ونزل قوله تعالى مؤكدًا هذا التشريع الإلهى الجديد : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِـي ينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }الأحزاب :40.
  وقد كان هذا الزواج بأمر من الله تعالى ولم يكن بدافع الهوى والشهوة كما يقول الأفاكون المرجفون من أعداء الله , وكان لغرض نبيل وغاية شريفة هى إبطال عادات الجاهلية , وقد صرح الله عز وجل بغرض هذا الزواج بقوله : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} الأحزاب :37 .
  وهكذا كان هذا الزواج للتشريع , وكان بأمر الحكيم العليم , فسبحان من دقت حكمته أن تحيط بها العقول والأفهام وصدق الله : {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلًا } الإسراء : 85 .
  ثالثاً : الحكمة الإجتماعية .
  وهذه تظهر بوضوح فى تزويج النبـي  بابنة الصديق الأكبر أبى بكر  وزيره الأول , ثم بابنة وزيره الثاني الفاروق عمر  , ثم باتصاله  بقريش اتصال مصاهرة ونسب وتزوجه العديد منهن , مما ربط بين هذه البطون والقبائل برباط وثيق , وجعل القلوب تلتف حوله وتلتقى حول دعوته في إيمان وإكبار وإجلال .
  لقد تزوج النبـي  بالسيدة عائشة بنت أحب الناس إليه وأعظمهم قدراً إليه ألا وهو أبو بكر الصديق الذى كان أسبق الناس إلى الإسلام , وقدم نفسه وروحه وماله في سبيل نصرة دين الله والذود عن رسوله , وتحمل ضروب الأذى في سبيل الإسلام , فلم يجد الرسول  مكافأة في الدنيا لأبي بكر أعظم من أن يُقر عينه بهذا الزواج بابنته , ويصبح بينهما مصاهرة وقرابة تزيد في صداقتهما وترابطهما الوثيق .
  كما تزوج  بالسيدة حفصة بنت عمر , فكان ذلك قرة عين لأبيها عمر على إسلامه وصدقه وإخلاصه وتفانيه في سبيل هذا الدين , وعمر هو بطل الإسلام الذي أعز الله به الإسلام والمسلمين , ورفع به منار الدين فكان اتصاله  به عن طريق المصاهرة خير مكافأة له على ما قدم في سبيل الإسلام , وقد ساوى  بينه وبين وزيره الأول أبي بكر في تشريفه بهذه المصاهرة , فكان زواجه بابنتيهما أعظم شرف لهما , بل أعظم مكافأة ومنة , ولم يكن بالإمكان أن يكافئهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا الشرف فما أجل سياسته , وما أعظم وفاءه للأوفياء المخلصين .
  كما يقابل ذلك إكرامه لعثمان وعلي بتزويجهما ببناته , وهؤلاء الأربعة هم أعظم أصحابه وخلفاؤه من بعده في نشر ملته وإقامة دعوته , فما أجلها من حكمة , وما أكرمها من نظرة .
  رابعًا : الحكمة السياسية .
  لقد تزوج النبـي  ببعض النسوة من أجل تأليف القلوب عليه , وجمع القبائل حوله , فمن المعلوم أن الإنسان إذا تزوج من قبيلة أو عشيرة يصبح بينه وبينهم قرابة ومصاهرة , وذلك بطبيعته يدعوهم إلى نصرته وحمايته ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك لتتضح لنا الحكمة التى هدف إليها الرسول الكريم من وراء هذا الزواج .
  أولا : تزوج  بالسيدة جويرية بنت الحارث , سيد بني المصطلق , وكانت قد أسرت مع قومها وعشيرتها , ثم بعد أن وقعت تحت الأسر أرادت أن تفتدي نفسها فجاءت إلى رسول الله  تستعينه بشيء من المال , فعرض عليها الرسول الكريم أن يدفع عنها الفداء وأن يتزوج بها , فقبلت , فتزوجها , فقال المسلمون : أصهار رسول الله  تحت أيدينا , أي أنهم في الأسر فأعتقوا جميع الأسرى الذين كانوا تحت أيديهم , فلما رأى بنو المصطلق هذا النبل والسمو وهذه الشهامة والمروءة أسلموا جميعًا , ودخلوا في دين الله وأصبحوا من المؤمنين .
  فكان زواجه  بها بركة عليها وعلى قومها وعشيرتها , لأنه كان سبباً لإسلامهم وعتقهم , وكانت جويرية أيمن امرأة على قومها .
  ثانياً : وكذلك تزوجه  بالسيدة صفية بنت حُيي بن أخطب التى أسرت بعد مقتل زوجها في غزوة خيبر ووقعت في سهم بعض المسلمين , فقال أهل الرأي والمشورة : هذه سيدة بني قريظة لا تصلح إلا لرسول الله  فعرضوا الأمر على الرسول الكريم فدعاها وخيرها بين أمرين :
  إما أن يعتقها ويتزوجها  فتكون زوجة له .
  وأما أن يطلق سراحها فتلحق بأهلها .
  فاختارت أن يعتقها وتكون زوجة له وذلك لما رأته من جلالة قدره وعظمته
وحسن معاملته وقد أسلمت وأسلم بإسلامها عدد من الناس .  175
  ثالثا : وكذلك تزوج رسول الله  بالسيدة حبيبة رملة بنت أبى سفيان الذى كان في ذلك الحين حامل لواء الشرك وألد الأعداء لرسول الله  وقد أسلمت ابنته في مكة ثم هاجرت مع زوجها إلى الحبشة فرارًا بدنها , وهناك مات زوجها فبقيت وحيدة فريدة لا معين لها ولا أنيس , فلما علم الرسول الكريم بأمرها أرسل إلى النجاشي ملك الحبشة ليزوجه إياها , فأبلغها النجاشي ذلك فسرت سرورًا لا يعرف مقداره إلا الله سبحانه , لأنها لو رجعت إلى أبيها أو أهلها لأجبروها على الكفر والردة أو عذبوها عذابًا شديداً,  وقد أصدقها عنه أربعمائة دينار .
  ولما بلغ أبا سفيان الخبر أقر ذلك الزواج وقال : هو الفحل لا يقعد أنفه فافتخر بالرسول , ولم ينكر كفاءته له إلى أن هداه الله تعالى للإسلام .  176
  ومن هنا تظهر لنا الحكمة الجليلة في تزوجه  بابنة أبي سفيان , فقد كان هذا الزواج سببًا لتخفيف الأذي عنه وعن أصحابه المسلمين سيما بعد أن أصبح بينهما نسب وقرابة , مع أن أبا سفيان كان وقت ذاك من ألد بني أمية خصومة لرسول الله ومن أشدهم عداء له وللمسلمين , فكان تزوجه بابنته سببا لتأليف قلبه وقلوب قومه وعشيرته , كما أنه  اختارها لنفسه تكريماً لها على إيمانها لأنها خرجت من ديارها فارة بدينها , فما أكرمها من سياسة وما أجلها من حكمة .
  قلت ـ المصنف ـ : ونذكر في آخر هذا الفصل بعض ما قاله علماؤنا المتقدمين حول هذا الحديث , فنقول وبالله التوفيق :  
  قال الإمام السيوطي ـ رحمه الله ـ :  
  " قال بعضهم في هذا الحديث : في هذا قولان , أحدهما : انه زيادة في الإبتلاء والتكليف , حتى يلهو بما حبب إليه من النساء عما كلف من أداء الرسالة , فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره .
  والثاني : لتكون خلواته مع ما يشاهدها من نسائه , فيزول عنه ما يرميه به المشركون من أنه ساحر أو شاعر , فيكون تحبيبهن إليه على وجه اللطف به .
  وعلى القول الأول على وجه الإبتلاء وعلى القولين فهو له فضيلة .
  وقال التستري في شرح الأربعين :
  " من " في هذا الحديث بمعنى : " في " لأن هذه من الدين لا من الدنيا , وإن كانت فيها , والإضافة في رواية دنياكم للإيذان بأن لاعلاقة له بها , وفي هذا الحديث إشارة إلى وفائه  بأصلى الدين وهما : التعظيم لأمر الله , والشفقة على خلق الله , وهما كمالا قوتيه النظرية والعملية  , فإن كمال الأولى بمعرفة الله والتعظيم دليل عليها لأنه لا يتحقق بدونها , والصلاة لكونها مناجاة الله تعالى على ما قال  المصلى يناجي ربه نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها ووظائفها , وكمال الثانية في الشفقة وحسن المعاملة مع الخلق , وأولى الخلق بالشفقة بالنسبة إلى كل واحد من الناس نفسه وبدنه كما قال  : " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " , والطيب أخص الذات بالنفس , ومباشرة النساء ألذ الأشياء بالنسبة إلى البدن , مع ما يتضمن من حفظ الصحة وبقاء النسل المستمر لنظام الوجود .
  ثم أن معاملة النساء أصعب من معاملة الرجال لأنهن أرق ديناً وأضعف عقلاً , وأضيق خلقاً كما قال  في الصحيح : " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن "  فهو  أحسن معاملتهن بحيث عوتب بقوله تعالى : { تبتغي مرضات أزواجك } , وكان صدور ذلك منه طبعاً لا تكلفاً , كما يفعل الرجل ما يحبه من الأفعال , فإذا كانت معاملته معهن هذا فما ظنك بمعاملته مع الرجال الذين هم أكمل عقلاً , وأمثل ديناً , وأحسن خلقاً .
  وقوله  : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " , إشارة إلى أن كمال القوة النظرية أهم عنده وأشرف في نفس الأمر , وأما تأخيره فللتدرج التعليمي من الأدنى إلى الأعلى .
  وقال الشيخ تقي الدين السبكي :
  " السر في إباحة نكاح أكثر من أربع لرسول الله  أن الله تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها , وما يستحيا من ذكره , ومالا يستحيا منه , وكان رسول الله  أشد الناس حياء , فجعل الله تعالى له نسوة ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله , ويسمعنه من أقواله التي قد يستحي من الإفصاح بها بحضرة الرجال , ليكتمل نقل الشريعة , وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون لهذا النوع ومنهن عرف مسائل الغسل والحيض والعدة ونحوها
  قال : ولم يكن ذلك لشهوة منه في النكاح , ولا كان يحب الوطء للذة البشرية معاذ الله , وإنما حبب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحي هو من الإمعان في التلفظ به , فأحبهن لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب .
  وأيضاً : فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه وحالة خلوته من الآيات البينات على نبوته ومن جده واجتهاده في العبادة , ومن أمور يشهد كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي , وما كان يشاهدها غيرهن , فحصل بذلك خير عظيم " .  177
         

الحديث السادس والعشرون
مزمار الشيطان عند النبي 
 عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :
  " دخل على رسول الله  وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث , فاضطجع على الفراش وحول وجهه , ودخل أبو بكر فانتهرني وقال : مزمارة الشيطان عند النبي  ! فأقبل عليه فقال : " دعهما " , فلما غفل غمزتهما فخرجت , وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب ، فإما سألت النبي   , وإما قال : " تشتهين تنظرين ؟ " , فقلت : نعم , فأقامني وراءه ، خدي على خده ، وهو يقول : " دونكم يا بنى أرفدة " , حتى إذا مللت قال : " حسبك ؟ "  قلت : نعم  قال : " فاذهبي " .  178
   الشبهة : هذا الحديث الذى يبين محاسن ومكارم أخلاقه  مع أهل بيته , طعن فيه بعض أدعياء العلم بحجة أنه يطعن فى سلوك رسول الله  ، حيث أن الحديث فى نظرهم ينسب إليه  استماعه وفى عقر داره إلى الغوانى يتغنين , وكيف للخليفة أبى بكر أن يمنع المغنيات فى بيت النبى وبحضوره والنبى ساكت لا يتكلم .
  هل أن أبا بكر أفضل من النبى ؟ وأى نبى هذا الذى يسكت وأحد أصحابه يمنع المغنيات ؟ وأى نبى هذا الذى يدعوا زوجته الشابة إلى مشاهدة هذه الحفلة الراقصة فى المسجد , والنظر إلى الأجانب ، وتضع خدها على خده، ثم
يقوم حتى تمل هى من المشاهدة ؟!
   والجواب :
  أولاً : الحديث صحيح سنداً ومتناً , ولا يتعارض مع عصمة رسول الله  فى سلوكه وهديه ، بل فيه البيان العملى مع أهل بيته ، لما هو مباح للأمة فى أيام العيد .
  وهذا البيان فهمه أئمة السنة قديماً وحديثاً بما لا يتعارض مع عصمته  وتأمل مواضع إخراج هذا الحديث فى كتب السنة تجد صدق ما أقول , فالإمام البخارى أخرج الحديث فى عدة مواضع من صحيحه أولها " كتاب العيدين "، باب : الحراب والدرق يوم العيد ، ثم كرره فى باب : سنة العيدين لأهل الإسلام .
  وهو كما ترى صريح فى بيان أن حديث عائشة ، يستفاد منه السنة والشرع لأهل الإسلام فى العيدين ، من جواز اللعب واللهو والرقص والغناء ، بما لا معصية فيه , وهذا ما تضمنه عنوان الباب الذى ذكر تحته الحديث من صحيح الإمام مسلم فى كتاب العيدين .
  ومن هنا صرح العلماء بأن إظهار السرور فى الأعياد من شعار الدين .179  
  وقولهم هذا مستفاد صراحة من هذا الحديث ،  على ما جاء فى رواية مسلم
من قوله   : " دعهما يا أبا بكر فإنهما أيام عيد "   180,  ففى ذلك تعليل الأمر
بتركهما ، بأنه يوم عيد ، أى : هو وقت سرور .
  وهناك من العلماء من قاس على يوم العيد فى إظهار السرور ، ما فى معناه كيوم العرس والوليمة والعقيقة والختان ، ويوم القدوم من السفر , وسائر أسباب الفرح ، وهو كل ما يجوز به الفرح شرعاً .  181
  فمن أين نعرف مثل هذه الأحكام إلا من هذا الحديث وما فى معناه ! .
  ثانياً : ليس فى إنكار الصديق  على عائشة ـ رضى الله عنها ـ ، وما معها من الجوارى وبحضوره  إفتئات على رسول الله ، بل هو أدب من أبى بكر ورعاية منه لحرمة رسول الله  ، وإجلال لمنصبه ، لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو فى بيته  فبادر إلى إنكار ذلك قياماً عن النبى  مستنداً بذلك إلى ما ظهر له ، كما يحتمل أن يكون أبو بكر ظن أن رسول الله  نام , فخشى أن يستيقظ فيغضب على ابنته ، فبادر إلى سد هذه الذريعة ، فأوضح له النبى  الحال ، وعرفه الحكم مقروناً ببيان الحكمة بأنه يوم عيد ، أى يوم سرور شرعى ، فلا ينكر فيه مثل هذا ، كما لا ينكر فى الأعراس ونحوها مما يجوز به الفرح شرعاً على ما سبق .
  وبهذا يرتفع الإشكال أيضاً عن إنكار عمر بحضرته  فى نفس القصة ، على ما روى عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت : " رأيت النبى  يسترنى وأنا أنظر إلى الحبشة , وهم يلعبون فى المسجد ، فزجرهم عمر فقال النبى  " دعهم , أمناً بنى أرفدة "   182, يعنى من الأمن , يشير إلى أن المعنى : اتركهم
من جهة إنا آمناهم أمناً.
  فإنكار عمر  هنا مبنى على أن الأصل تنزيه المساجد عن اللعب فيها بالحراب ، فبين له رسول الله  وجه الجواز .
  كما يحتمل أن يكون عمر لم يرى رسول الله  ولم يعلم أنه رآهم ، كما يحتمل أن يكون إنكاره لهذا شبيه إنكاره على المغنيتين ، وكان من شدته فى الدين ينكر خلاف الأولى ، والجد فى الجملة أولى من اللعب المباح , وأما النبى  فكان بصدد بيان الجواز . 183
  ثالثاً : ليس فى الحديث ما يزعمه دعاة الفتنة من استماع رسول الله  ، للباطل من الغناء على لسان المغنيات بدلالة ما يلى :
  ـ ما ورد فى الحديث من أنه  تسجى بثوبه ، أى : التف به حتى غطى وجهه وأذنه ، ففى ذلك إعراض عن ذلك , لكون مقامه يقتضى أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك ، لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذى أقره إذ لا يقر على باطل ! .
  ـ كما أن فى إعراضه بتغطية وجهه وأذنه بيان لكمال رأفته  وحلمه ، وحسن خلقه مع زوجته عائشة وصواحباتها ، لئلا يستحيين فيقطعن ما هو مباح لهن .  184
  وحتى على فرض استماعه  لغناء الجوارى ، فالغناء هنا من نوع المباح وجاء على لسان ممن لم يتخذا الغناء عادة لهما , يدل على ذلك :
  ما ورد فى الحديث من قول عائشة ـ رضى الله عنها ـ : " وعندى جاريتان من جوارى الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث ، قالت : وليستا بمغنيتين " , ففى قولها : " وليستا بمغنيتين " معناه : ليس الغناء عادة لهما ، ولا هما معروفتان به ، وإنما كان غناؤهما بما هو من أشعار الحرب ، والمفاخرة بالشجاعة ، والظهور والغلبة ، وهذا لا يهيج الجوارى على شر ، ولا إنشادهما لذلك من الغناء المختلف فيه ، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت : " وليستا بمغنيتين " , أى : ليستا ممن يتغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى ، والتعريض بالفواحش ، والتشبيب بأهل الجمال ، وما يحرك النفوس ، ويبعث الهوى والغزل ، وليستا أيضاً ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذى فيه تمطيط وتكسير ، وعمل يحرك الساكن ، ويبعث الكامن ، ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسباً ، والعرب تسمى الإنشاد غناء وليس هو من الغناء المختلف فيه ، بل هو مباح ، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذى هو مجرد الإنشاد والترنم ، وفعلوه بحضرة النبى  وفى هذا كله إباحة .  185
  فتأمل ما ورد فى الحديث : من أنه  تسجى بثوبه ، واضطجع على الفراش وحول وجهه الشريف ، وقول عائشة : " ليستا بمغنيتين " , حيث نفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ ، تحرزاً عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به .
  تأمل ذلك جيداً يظهر لك بطلان ما زعمه أدعياء العلم ، ودعاة الفتنة فى حق أئمة السنة ، وفى حق صاحبها  كما يظهر لك سوء فهمهم لحديثنا ؟
  وإلا فليأتوا لنا بما يخالف ما ورد فى الحديث من أنه  لم يتسجى بثوبه ، ولم يحول وجهه واستمع إلى مغنيات معروفات بالغناء ، وتغنين بعادة المغنيات مما يحرك النفوس ، ويبعث الهوى والغزل ، لا مجرد جوارى لا يعرفن بالغناء ، ولا هو عادة لهما ، وكل ما فعلنه أن رفعن أصواتهن بإنشاد ما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة يوم بعاث ؟! .
  رابعاً : إن حديثنا يبين عصمة سيدنا رسول الله  فى سلوكه وهديه ، ويبين ما كان عليه من الرأفة والرحمة ، وحسن الخلق ، والمعاشرة بالمعروف مع أهل بيته امتثالاً لقوله تعالى : { وعاشروهن بالمعروف } , وخصوصاً إذا كان أهل بيته صغار السن كعائشة القائلة على ما جاء فى رواية مسلم فى ختام حديثنا : " فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن ، حريصة على اللهو " .
  ولذا لما رأت بعض الحبشة يرقصن فى المسجد والصبيان حولهم يشاهدون  التمست من رسول الله  النظر إليهم ، فأذن لهى على ما جاء فى رواية مسلم فى حديثنا : " قالت : لعابين ، وددت أنى أراهم , قالت : فقام رسول الله  وقمت على الباب أنظر بين أذنيه وعاتقه وهم يلعبون فى المسجد " .
  خامساً : إقرار سيدنا رسول الله  للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب ليس لمجرد اللعب ، بل لم فيه من تدريب الشجعان على مواقع الحروب ، والاستعداد للعدو .
  واللعب بالسلاح ونحوه من آلات الحرب ـ وإن كان لا يناسب بيوت الله فى زماننا - إلا أنه يستفاد من إقراره  للحبشة اللعب فى المسجد بالحراب ، أن لعب الصبيان فى المسجد يوم العيد ليس فيه انتهاك لحرمة بيوت الله ، ولا يعارضه الحديث الضعيف الذي فيه : " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ، وشراركم ، وبيعكم ، وخصوماتكم , ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم ، وسل سيوفكم ، واتخذوا على أبوابها المطاهر ، وجمروها فى الجمع " .   186
  كما أن العلماء استفادوا من إقراره  جواز أى عمل فى المسجد يجمع بين منفعة الدين وأهله ، لأن المسجد إنما وضع لأمر جماعة المسلمين .  187
  سادساً : إقرار رسول الله  لزوجته أم المؤمنين عائشة ـ رضى الله عنها ـ النظر إلى لعب الحبشة فيه : بيان لحسن خلقه مع أهله وكرم معاشرته ، وفضل عائشة وعظيم محلها عنده  وليس فى نظرها إلى لعب الحبشة ، ما يتعارض مع احتجابها من النظر إلى الأجانب ، لأنه ليس فى الحديث أنها نظرت إلى وجوههم وأبدانهم ، وإنما نظرت لعبهم وحرابهم ، ولا يلزم من ذلك تعمد النظر إلى البدن ، وإن وقع النظر بلا قصد صرفته فى الحال .
  ومن هنا استفاد العلماء من ذلك : إباحة الرجل لزوجته النظر إلى اللعب واللهو المباح ، إذ المكروه فى حق النساء النظر إلى محاسن الرجال ، والاستلذاذ بذلك .  188
  وبعد : فإن رسول الله  عصمه ربه فى سلوكه وهديه ، وجعله قدوة لأمته  ومبيناً لما أنزل عليه , من آيات الله البينات  , وقد قام رسول الله  بهذا البيان
قولاً وعملاً على أكمل وجه .
 فكان حديثنا بياناً عملياً لقول رب العزة : { وعاشروهن بالمعروف } , وبياناً عملياً لقوله  ففي الحديث الصحيح : " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، و خياركم خياركم لنسائهم "   189, وقوله  : " خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلى " .   190
  حيث بين حديثنا للأمة أن حسن الخلق فى تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب ، أحسن من خشونة الزهد ، والتقشف فى الامتناع والمنع منه ؛ وخاصة فى أيام العيد ، ويقاس على أيام العيد سائر أسباب الفرح ، مما يجوز به الفرح شرعاً ، شريطة أن يكون هذا اللعب واللهو مما لا معصية فيه ، ففى الحديث : " كل شئ ليس فيه ذكر الله فهو لهو ولعب إلا أربع : ملاعبة الرجل امرأته وتأديب الرجل فرسه ومشيه ب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 6:15 pm

الحديث السابع والعشرون
حديث تأبير النخل
 عن أنس  قال :
  أن النبي  مر بقوم يلقحون , فقال : " لو لم تفعلوا لصلح " , قال : فخرج شيصاً , فمر بهم فقال : " ما لنخلكم ؟ " , قالوا : قلت كذا وكذا , قال : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " .  191
 وعن رافع بن خديج  قال :
  قدم نبى الله  المدينة وهم يأبرون النخل يقولون : يلقحون النخل , فقال : " ما تصنعون " , قالوا : كنا نصنعه .
  قال : " لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً " فتركوه فنفضت , أو فنقصت , قال : فذكروا ذلك له , فقال : " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به , وإذا أمرتكم بشئ من رأيى فإنما أنا بشر " .  192
   الشبهة : أصبحت هذه الأحاديث من زمن طويل بمثابة الشماعة التى يعلق عليها من شاء ما شاء من أمور الشرع التى يراد التحلل منها ، فقد أراد بعضهم أن يحذف النظام السياسى كله من الإسلام بهذا الحديث وحده ، لأن أمر السياسة أصولاً وفروعاً من أمر دنيانا ، فنحن أعلم به ، فليس من شأن الوحي أن يكون له فيها تشريع أو توجيه ، فالإسلام عند هؤلاء دين بلا دولة ، وعقيدة بلا شريعة .
  وأراد آخرون أن يحذفوا النظام الإقتصادى كله من الإسلام كذلك ، بسبب هذا الحديث الواحد .
  وهذا الغلو من بعض الناس هو الذى جعل عالماً كبيراً مثل المحدث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر - رحمه الله - يعلق على هذا الحديث فى مسند الإمام أحمد فيقول : " هذا الحديث مما طنطن به ملحدوا مصر ، وصنائع أوروبا فيها من عبيد المستشرقين ، وتلامذة المبشرين ، فجعلوه أصلاً يطعنون به فى عصمة رسول الله  فى اجتهاده ، وأخذوا يحجون به أهل السنة وأنصارها ، وخدام الشريعة وحماتها ، إذا أرادوا أن ينفوا شيئاً من السنة ، وأن ينكروا شريعة من شرائع الإسلام ، فى المعاملات ، وشئون الاجتماع وغيرها ، يزعمون أن هذه من شئون الدنيا ، ويتمسكون برواية أنس : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " , والله يعلم أنهم لا يؤمنون بأصل الدين ، ولا بالألوهية ، ولا بالرسالة  ولا يصدقون القرآن فى قرارة نفوسهم , ومن آمن منهم فإنما يؤمن لسانه ظاهراً ، ويؤمن قلبه فيما يخيل إليه ، لا عن ثقة وطمأنينة ، ولكن تقليداً وخشية  فإذا ما جد الجد ، وتعارضت الشريعة الكتاب والسنة مع ما درسوا فى مصر أو فى أوروبا ، لم يترددوا فى المفاضلة ، ولم يحجموا عن الاختيار ، وفضلواما أخذوه عن سادتهم ، واختاروا ما أشربت قلوبهم ، ثم ينسبون نفوسهم بعد ذلك أو ينسبهم الناس إلى الإسلام .
  والحديث واضح صريح ، لا يعارض نصاً ، ولا يعارض عصمته  فى اجتهاده ، ولا يدل على عدم الإحتجاج بالسنة فى كل شأن ، كما لا يدل على ما يزعمون أن السنة النبوية ليست كلها وحى .
  وإنما الحديث فى قصة تلقيح النخل أن قال لهم : " ما أظن ذلك يغنى شيئاً "  فهو لم يأمر ولم ينه ، ولم يخبر عن الله ، ولم يسن فى ذلك سنة حتى يتوسع فى هذا المعنى إلى ما يهدم به أصل التشريع " .  193
   والجواب : والرد على هذه الشبهة من أربعة وجوه :
   الوجه الأول : أن يقال : إن ما ذكرتموه لم يقله أحد من أهل العلم ، بل هو مخالف لأقوالهم وما كان هذا سبيله فهو مردود على صاحبه ، مرفوض غير مقبول ، فقد بوب النووي على ذلك الحديث بقوله : " باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً ، دون ما ذكره  من معايش الدنيا على سبيل الرأي " .
  وقال أيضاً في شرح هذه الأحاديث : " قال العلماء : قوله  " من رأي " أي : في أمر الدنيا ومعايشها لا على سبيل التشريع ، فأما ما قاله باجتهاده ورآه شرعاً يجب العمل به ، وليس إبار النخل من هذا النوع ، بل من النوع المذكور قبله .
  قال العلماء : ولم يكن هذا القول خبراً ، وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات .
  قالوا : ورأيه  في أمور المعايش وظنه كغيره ، فلا يمتنع وقوع مثل هذا ، ولا نقص في ذلك ، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ومعارفها والله أعلم " .  194
  فمما تقدم نقله عن أهل العلم يتبين أن مجال هذا الحديث إنما هو في " أمر الدنيا ومعايشها " , ولم يذكر العلماء تلك العبارة مطلقة ، بل قيدوها بما يبطل كل محاولات التأويل الباطل لهذا الحديث ، فقد قيد العلماء " أمر الدنيا ومعايشها " بأن يكون النبي  قاله " على سبيل الرأي " , أي أنه قاله " لا على سبيل التشريع " , وهذا التقييد يعني أمرين :
  الأول : أن الأمور التي يقال فيها : " أنتم أعلم بأمور دنياكم " , هي تلك الأمور التي لم تتناولها الأدلة الشرعية تناولاً عاماً أو تناولاً خاصاً ، أو الأمور التي تناولتها السنة لا على سبيل التشريع وإنما على سبيل الرأي فقط .
  الثاني : أن الأصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية - ولو كان متعلقاً بأمر الدنيا أو المعاش أو غيره - أن يكون على سبيل التشريع , إلا أن يدل الدليل أو القرينة على خلاف ذلك ويؤيد هذا الكلام أيضاً أمران :
  أ- تصرف الصحابة في القصة المذكورة حيث امتنعوا من تأبير النخل - رغم خبرتهم السابقة عن أهمية ذلك التلقيح علاوة على أنه أمر أمور المعايش الدنيوية - وذلك لما لم يظهر لهم دليل أو قرينة تبين لهم أن الرسول  قال ما قال على غير سبيل التشريع ، وهذا يعني أنهم  يتعاملون مع أقواله  - ولو كانت في أمور المعايش - على أنها على سبيل التشريع حتى يأتي من الدليل الشرعي ما يبين أنها على غير سبيل التشريع .
  ب - طريقة صياغة العلماء للعبارات السابقة ، فإنها واضحة كل الوضوح في أن الأصل في كل ما جاء في النصوص الشرعية إنما يتم التعامل معه على أنه جاء على سبيل التشريع ، ولذلك احتاج هؤلاء العلماء أن يقيدوا الأمور التي لا يجب على المسلمين امتثالها من معايش الدنيا ، بأنها التي جاءت " على سبيل الرأي " أو " لا على سبيل التشريع " , وهذا يعني أن النصوص التي جاءت في معايش الدنيا أو غيرها ولم تظهر قرينة أو دليل يبين أنها جاءت على سبيل الرأي أو لا على سبيل التشريع , فإنه يتم التعامل معها على أنها نصوص تشريعية يجب امتثالها .
   الوجه الثاني : أن يقال إن الرسول  لم يذكر الكلام في عدم تأبير النخل مطلقاً من كل قيد ، حتى يقال : إن ما تناولته النصوص الشرعية مطلقاً من القيود , وهو من أمور الدنيا , فإن الشرع يترك - في هذه الحالة - ويرجع في تلك الأمور الدنيوية إلى أهل الدنيا .
  فالرسول  - كما هو بين في الحديث - لم يأمرهم أمراً مطلقاً ، أو لم ينههم نهياً مطلقاً - أي بعبارة أخرى لم يكن ما صدر منه على سبيل التشريع - وألفاظ الحديث ورواياته المتعددة تدل على ذلك ، وإن كان من سمع هذا الموضوع من الصحابة  قد غلبوا جانب التشريع , فقد جاء في ألفاظ الحديث ورواياته  " ما أظن يغني ذلك شيئاً " , وجاء " لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً " ، مما يبين أن الرسول  يتحدث عن ظن , أو خبرة دنيوية لا علاقة لها بالتشريع ، ولذلك لما غلب بعض الصحابة  جانب التشريع في ذلك ، بين لهم الرسول  لم يرد ذلك , وأن كلامه السابق لا يدل عليه ، ولذلك قال لهم معقباً على تصرفهم إزاء مقالته السابقة : " فإني إنما ظننت ظناً ، فلا تؤاخذوني بالظن " وقال : " إذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر " ، وقال : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " , فالروايات كلها في مبتداها ومنتهاها متضافرة على أن ما ذكره الرسول  للصحابة كان من قبيل الرأي المتعلق بأمور المعاش القائم على الخبرة البشرية التي قد يتاح منها لبعض الناس ما لا يتاح لغيرهم ، ولم يكن كلاماً على سبيل التشريع ، وإذا تبين ذلك ، فقد بطل قولهم في أن النصوص الشرعية المتعلقة بأمور الدنيا لا يعول عليها ، ولا يرجع إليها ، وإنما يرجع في مثل هذه الأمور إلى أهل الدنيا والمعرفة بها .
   الوجه الثالث : أن يقال إن " أمر الدنيا " الذي عناه الرسول  في حديثه ، هو تأبير النخل , فلا يقاس عليه إلا ما جرى مجراه وكان على شاكلته  وهو الخبرة العملية المتعلقة بشأن من الشئون المباحة التي لم يتعلق بها الخطاب الشرعي لا أمراً ولا نهياً ، وليس المراد بذلك كل أمر متعلق بالدنيا ، لأنه قد جاءت نصوص شرعية كثيرة في أمور الدنيا ، وقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً ونهياً ، فكانت بذلك موكولة إلى الشرع يبين حلالها وحرامها وما يصح منها وما لا يصح إلى غير ذلك من تفاصيلها المطلوبة ، ولم تكن موكولة إلى المسلمين - أو إلى غيرهم - يجتهدون فيها أو يعملون فيها بمقتضى عقولهم أو مصالحهم أو أهوائهم ، والنظام السياسي وتفاصيله قد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً ، فكان بذلك من النوع الموكول إلى الشرع يبين أحكامه وتفاصيله ، ولم يكن من النوع الأول الذي وُكل إلى الخبرة البشرية حيث لم يتعلق به الخطاب الشرعي .
  وبذلك تسقط دعاوى العلمانيين ومن تابعهم في تحريف هذا الحديث للوصول إلى إخراج النظام السياسي من الدخول تحت ولاية الشرع .
  وأما الأدلة على تعلق الخطاب الشرعي أمراً ونهياً وتخييراً بأمور الدنيا ، فأشهر من أن تذكر ، وأكثر من أن تحصر في هذا الكتاب ، لذلك نشير إلى جمل من ذلك فقط فعلى سبيل المثال :
  - عيادة المريض ، هو أمر اجتماعي يمس علاقات التواصل والألفة بين الناس ، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي أمراً وتحريضاً : منه قوله صلى الله عليه وسلم : " عودوا المريض " ، ومنه قول البراء بن عازب : أمرنا رسول الله  بسبع . . الحديث وفيه " وأمرنا أن نتبع الجنائز ونعود المريض ونفشي السلام " .
  - وعلى سبيل المثال : الطب والدواء ، فهو أمر من المصالح والمنافع التي يحتاجها الناس ، وهو أيضاً أمر للخبرة فيه دخل كبير ، ومع ذلك فقد تعلق به الخطاب الشرعي ، وانظر في ذلك كتاب " الطب " أو كتاب " المرضى " في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة ، وعلى سبيل المثال فقد جاء قوله  : " الشفاء في ثلاث : شربة عسل ، وشرطة محجم ، وكية نار وأنهى أمتي عن الكي " , ففي هذا الحديث يبين الرسول  بعض الأدوية النافعة في العلاج ، ثم ينهي عن بعضها ، وهذه الأمور هي من الأمور الدنيوية ، ولكن مع ذلك قد تعلق بها الخطاب الشرعي .
  حتى إنه عندما أشار الرسول  باستعمال العسل شفاءً من داء استطلاق البطن ، وأخذ المريض الدواء ، فازداد بطنه استطلاقاً ، ورجع الخبر إلى رسول الله  لم يقل رسول الله  في هذا الحديث كما قال في حديث تأبير النخل : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " ، وإنما قال لمخبره : " اسقه عسلاً " ، فسقاه فازداد استطلاقاً ، فرجع إليه وقال : لقد ازداد بطنه استطلاقاً ، فقال  - مصراً على مقالته الأولى – " اسقه عسلاً "، فسقاه فجاءه الرجل المخبر - وكان أخاً للمريض - وأخبره بعدم الشفاء ، فقال له الرسول  - مؤكداً على مقالته الأولى ومحتجاً لها - " صدق الله وكذب بطن أخيك ، اسقه عسلاً " ، فسقاه فبرأ .   195
  يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ :
  " التشريع يتضمن الإيجاب والتحريم والإباحة ، ويدخل في ذلك ما دل عليه من المنافع في الطب ، فإنه يتضمن إباحة ذلك الدواء والانتفاع به ، فهو شرع لإباحته ، وقد يكون شرعاً لاستحبابه ؛ فإن الناس قد تنازعوا في التداوي .
   والتحقيق أن منه ما هو محرم , ومنه ما هو مكروه , ومنه ما هو مباح ، ومنه ما هو مستحب , وقد يكون منه ما هو واجب " .
  وعلى سبيل المثال أيضاً : اللباس , والزينة ، ما يلبس المرء وما لا يلبس و
تفاصيل كثيرة متعلقة بذلك هي من الأمور الدنيوية ، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي ، بحيث يبين ما يجوز لبسه وما لا يجوز ، ويبين كيفيات اللباس المباحة والممنوعة إلى غير ذلك من التفاصيل ، ومن أراد التفاصيل فليطلع في كتب السنة على أحاديث كثيرة مجموعة تحت اسم " كتاب اللباس والزينة " .
  وعلى سبيل المثال أيضاً : كراء الأرض الزراعية بتفاصيلها المختلفة سواء كانت الأرض مشجرة أو غير مشجرة ، وسواء كان الإيجار بمال ، أو بغلة جزء معين من الأرض , وغير ذلك من التفاصيل قد تناولها أيضاً الخطاب الشرعي ، ولينظر الناظر في تفاصيل ذلك في كتاب المساقاة والمزارعة وكراء الأرض في كتب السنة وكل هذا من الأمور الدنيوية .
  وعلى سبيل المثال أيضاً مسائل البيع والشراء ، والربح والدين ، والرهن ، وما يتعلق بذلك من التفاصيل الكثيرة التي لا يتسع المقام للحديث عنها تعلق بها الخطاب الشرعي مع أنها من أمور الدنيا .
  فكل ما ذكرناه ، وما لم نذكره من هذه الأمور هو من الأمور الدنيوية ، ومع ذلك فقد تعلق بها الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً , وتفصيلاً وبياناً ، ولو صدق كلامهم في فهم الحديث " أنتم أعلم بأمر دنياكم " لانطبق كلامهم ذاك على ما تقدم ذكره من الأمثلة ، ولأدى هذا إلى إخراج كثير من الأمور من الخضوع للأحكام الشرعية ، ولأدى ذلك أيضاً إلى هدم الدين , وتبديل أحكام الشريعة وهو أمر باطل باتفاق أهل العلم ، وما استلزم الباطل فهو باطل , فيكون فهمهم للحديث باطلاً .
  ومن كل ما تقدم يتبين أن قوله  : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " لا يتعارض مع النصوص الشرعية التي جاءت متعلقة بأمور الدنيا ، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يستفاد من ذلك الحديث أن المسائل المتعلقة بالنظام السياسي هي من الأمور المتروكة للبشر ، وذلك لأن النظام السياسي جاءت في شأنه نصوص شرعية من الكتاب والسنة عامة وخاصة تبين وتفصل الأحكام المتعلقة به .
   الوجه الرابع : أن يقال ما هو الضابط الذي تعتمدون عليه في التفريق بين " أمر الدنيا " الموكول للبشر وبين " أمر الدين " الموكول إلى الشريعة ؟
  حيث إنكم لم تقدموا ضابطاً صحيحاً تفرقون به بين " أمر الدنيا " و " أمر الدين " فأنتم لستم تتبعون أو تتعلقون في قولكم : هذا من أمر الدنيا ، وذاك من أمر الدين بنص شرعي ، أو بكلام لأحد من أئمة العلم المعروفين لا قديماً ولا حديثاً ، وإنما أنتم تتبعون في تفريقكم الباطل من قلدتموهم من أهل الغرب أو الشرق الكافر الذين فصلوا الدولة عن الدين أو الدنيا عن الدين ، إذ كما هو معروف مشهور عندما تسلطت الكنيسة على الناس بالباطل ، وحدث بين ممثلي الكنيسة من جانب والناس من جانب مناوشات وصراع مرير طويل ، انتهى الأمر بعزل الكنيسة عن التدخل في أمور الدنيا أو الدولة ، وقصر تدخلها , أو قصِرت صلاحيتها على التوجيه الروحي والوصايا الأخلاقية ، وبعد هذا الوضع النهائي للكنيسة عندهم ، أصبحت " أمور الدين " ـ عندهم - محصورة في علاقة الفرد بربه ، وما يتصل بذلك من عقيدة الإنسان في ربه ، وأنواع القرب التي يتقرب بها إليه لينال رضاه من غير أن يكون لتلك العلاقة أي بعد أو أثر خارج دائرة الفرد نفسه .
  كما أصبحت " أمور الدنيا " تعني – عندهم - كل ما يتصل بحياة الفرد والجماعة داخل المجتمع ، وما يترتب على ذلك من أنظمة وعلاقات ومعاملات وقوانين .
  وقد تم الفصل الكامل بين هاتين الدائرتين دائرة " أمور الدنيا " ، ودائرة " أمور الدين " ، وترتب على ذلك أن الدين – عندهم - أصبح محصوراً في نطاق الإنسان الفرد وحده ، أو في داخل الكنيسة حيث يؤدي هؤلاء ما يعتقدون أنه من الدين عندهم ، حتى إذا خرجوا من تلك الكنائس إلى واقع الحياة لم يكن للدين أدنى سلطان على تنظيم الحياة وقيادتها , إلا ما كان من بعض الوصايا أو العظات الخلقية غير الملزمة ؛ لأن ذلك خارج عن نطاقه وصلاحياته .
  بينما أمور الدين تشمل عند المسلمين كل ما تعلق به الخطاب الشرعي أمراً أو نهياً أو خبراً ، فما تعلق به الخطاب على وجه الأمر فيكون من الدين فعل المأمور به ، وما تعلق به الخطاب على وجه النهي فيكون من الدين اجتناب المنهي عنه ، وما تعلق به الخطاب على جهة الخبر ، فيكون من الدين تصديق ما أخبر به .
  ومن المعلوم البين الذي لا يحتاج إلى كبير بيان أو إيضاح أن الخطاب الشرعي قد تعلق على جهة الأمر والنهي بالأمور أو المسائل التي تتناول حياة الفرد أو الجماعة داخل المجتمع , مما يطلق عليه أنه من الأمور الدنيوية وهي في الوقت نفسه مما يطلق عليه أنه من أمور الدين , وذلك لتعلق الخطاب الشرعي به .
  إذن فتعريف هؤلاء لأمر الدنيا ، وما ترتب عليه من إخراج النظام السياسي في الإسلام من أمور الدين , رغم تعلق الخطاب الشرعي به وإدخاله في أمور الدنيا التي لا دخل للشرع فيها ، هو أمر مأخوذ أصلاً من طبيعة العلاقة بين الدين النصراني المحرف وبين الفكر العلماني ، وغنى عن البيان أن ما كان كذلك فلا يصح أن يكون حجة في دين المسلمين .  196
  ومن هنا فلا يصح أن يكون المعنى فى قوله  : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " أن كل فرد أو أمة أعلم من غيرها بشئون ومصالح نفسها فى الأمور الدنيوية , لأن هذا المعنى وإن صح فى المباحات ، فلا يصح فى الواجبات والمحرمات ، فالشرع وحده هو الذى حددها على أنها مصلحة بناء على سبق علمه الذى خلق .
  ثم إن هذا المعنى لا يتناسب مع القصة , فكما قلنا : رسول الله  اجتهد فى عدم تأبير النخل ، وخالف اجتهاده الصواب ، فجاء التصحيح لما اجتهد فيه بقوله : " أنتم أعلم بأمر دنياكم " , والمراد : أنتم أيها الذين تلقحون النخل ومن على شاكلتكم من أهل الصناعات والمهارات والخبرات أعلم بصنائعكم منى .
  وممن ليس من أهل الصناعات ، والكلام على التوزيع ، على معنى : أن كل أهل صنعة أعلم بها ممن ليسوا من أهلها ، كما يقال : أهل مكة أدرى بشعابها.
  ويصح أن يكون المعنى أيضاً : أنتم أيها الذين تلقحون النخل أعلم بما يصلح
النخل منى وممن لا علم له بالزراعة ، أى أنتم أعلم بشئون دنياكم هذه التى تباشرونها ، والتى لم تنجح فيها مشاورتى الإجتهادية ، أعلم منى ومن مثلى ، فالحديث على هذا واقعة عين أو واقعة حال ، لا يستدل بها على غيرها أصلاً.
  وعلى كل حال لا يصح الاستدلال بالحديث على إباحة التغيير فى المعاملات أو غيرها من شئون الدنيا التى أطلقوا عليها سنة غير تشريعية , لأن الحديث - كما رأيت - تطرق إليه أكثر من احتمال فى معناه ، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الإستدلال .
  بقى سؤال يطرح نفسه ، وربما يثور فى نفوس البعض وهو : لماذا ألهم الله رسوله  أن يشير عليهم بهذه الإشارة مع أنها لم تكن فى مصلحتهم ؟ .
  ولماذا جعلهم الله يستسلمون لمجرد الإشارة ، وهم المعرفون بالمراجعة والنقاش وكثرة السؤال ؟ .
  ولماذا لم يتدارك الله هذا الإجتهاد بالتصحيح قبل أن تنتج شيصاً للمسلمين يسخر منه اليهود ، وأعداء الإسلام حين يصح نخلهم ، ويسوء نخل المسلمين بسبب مشورة نبيهم  ؟ .
  والجواب عن ذلك : فى محاولة تلمس حكمة لهذه القصة ، فإن حصلت بها قناعة واطمئنان فالحمد لله ، وإلا فنحن مؤمنون أرسخ الإيمان بأن لله عز وجل فى ذلك حكمة ، وهو الحكيم الخبير , ولعل الحكمة فى ذلك تدور حول ثلاث أمور :
  أولاً : صرف بلاء الأعداء عن المؤمنين الذين لم تقو شوكتهم بعد , ألم يكن هذا من الجائز أن يطمع الكافرون فى المدينة وتمرها ، فيهاجموها من أجل نزول رسول الله  فيها ؟ , فخروج التمر شيصاً جعلها غير مطمع ، وصرف الله بذلك هجوم الكافرين حتى يستعد المؤمنون ؟ احتمال .
  ثانياً : تعليمهم الأخذ بأسباب الحياة بهذا الدرس العملى الذى كان قاسياً عليهم , فتنافسوا بعده فى أسباب الحياة .
  ثالثاً : اختبارهم فى صدق إيمانهم ، فهذه القصة حتى اليوم فى هذا البحث ابتلاء واختبار ، وقد نجح الصحابة  فى هذا الإختبار القاسى ، وهم فى أول الإيمان نجاحاً باهراً ، فقد استمروا فى طاعة أوامره  ولم يرد إلينا ردة أحد بسببها ، بل لم يرد عتاب أحد منهم لرسول الله  عليها رغم خسارتها ، مما يشهد لهم بالإيمان الصادق المتين .
 ولعل تلك الحكمة الأخيرة هى أوجه الحكم فى هذه القصة , والله أعلى وأعلم بحكمته . أهـ .   197
         



الحديث الثامن والعشرون
إنما الأعمال بالخواتيم
 عن سهل بن سعد الساعدي  قال :
  قال النبي  : " إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار , ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة , وإنما الأعمال بخواتيمها " .   198
    الشبهة : قالوا : هل يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة طوال حياته ، ثم يختم له بعمل أهل النار , وأن يعمل الإنسان بعمل أهل النار ثم يموت على عمل أهل الجنة ؟!
   الجواب : قلت ـ المصنف ـ : ليس الأمر كما يتوهم البعض ، ولكن الأمر غير ذلك ، فإن المسلم إذا كان ملازماً لطاعة الله , مستقيماً على طاعته فإنه حري أن يختم له بالخير ، وأن يموت على ما عاش عليه من الطاعة والعقيدة والتوحيد , والذي يضيع نفسه في المعاصي وأوقاته في المخالفات فإنه يخشى عليه من سوء الخاتمة ، وأن يموت على خاتمة سيئة .  
  فعلى المسلم أن يحفظ عمره في طاعة الله سبحانه وتعالى ، وأن لا يدركه الموت وهو على حالة سيئة , فالعمل الصالح والطاعة من الأسباب التي يرجى لصاحبهما أن يختم له بالخير .
  وأما المعصية والمخالفات وإضاعة الواجبات فهي من الأسباب التي يخاف أن يختم لصاحبها بشر .
  فحسن الخاتمة وسوء الخاتمة لا شك أنهما متعلقان بقضاء الله وقدره سبحانه وتعالى , وقد جاء في الحديث الصحيح : " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها , وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " , هذا من ناحية القضاء والقدر .
  لكن من ناحية عمل الإنسان واهتمام الإنسان ، فإن عليه أن يحرص على طاعة الله ، ويجتنب معصيته ويتمسك بذلك ، وهذا من الأسباب التي يوفقه الله بها لحسن الخاتمة ، والموت على الإسلام .
  والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا ، وهو يحب التوابين ، ويحب المتطهرين والمحسنين ، ورحمته قريب منهم ، وما على الإنسان إلا أن يبذل الأسباب التي تجلب له حسن الخاتمة ، ويترك الأسباب التي تجلب له الشر ، وكل ميسر لما خلق له .
  قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
  " أعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه , فما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد , وإنما تكون لمن له فساد فى العقيدة , أو اصرار على الكبيرة وإقدام على العظائم , فربما غلب ذلك عليه حتي نزل به الموت قبل التوبة , فيأخذه قبل إصلاح الطوية ويصطلم قبل الإنابة , فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة ويختطفه عند تلك الدهشة , والعياذ بالله " .   199
  وقال صديق حسن القنوجي :
  " إن حسن وسوء الخاتمة له أسباب يجب على المؤمن أن يحترز عنها , منها : الفساد فى الإعتقاد وإن كان مع كمال الزهد والصلاح , فإن كان له فساد فى اعتقاده مع كونه قاطعاً به متيقناً له , غير ظان أنه أخطأ فيه قد ينكشف له فى حال سكرات الموت بطلان ما اعتقده , وأن هذا الإعتقاد باطل لا أصل له فيكون انكشاف بطلان بعض اعتقاداته سببا لزوال بقية اعتقاداته , فإن خروج روحه فى هذه الحالة قبل أن يتدارك ويعود إلى أصل الايمان يختم له بالسوء ويخرج من الدنيا بغير إيمان , فيكون من الذين قال الله تعالى فيهم : { وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون } , وقال فى آية أخرى : { قلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }الكهف : 103 ـ 104
  فإن كل من اعتقد شيئاًً على خلاف ما هو عليه , إما نظراً برأيه وعقله , أو أخذاً ممن هذا حاله فهو واقع فى هذا الخطر ولا يدفعه الزهد والصلاح , وإنما يدفعه الاعتقاد الصحيح المطابق لكتاب الله وسنة رسوله  .
  ومنها : الإصرار على المعاصى , فإن من له إصرار عليها يحصل فى قلبه
إلفها , وجميع ما ألفه الإنسان فى عمره يعود ذكره عند موته , فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات , وإن كان ميله إلى المعاصى أكثر يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر المعاصى فربما يغلب عليه حين نزول الموت به قبل التوبة شهوة ومعصية من المعاصى فيتقيد قلبه بها , وتصير حجاباً بينه وبين ربه , وسببا لشقاوته فى آخر حياته .
  ومن ارتكب ذنباً وتاب عنه فهو بعيد عن هذا الخطر , وأما الذى ارتكب ذنوباً كثيرة حتى كانت أكثر من طاعاته ولم يتب عنها بل كان مصراً عليها فهذا الخطر فى حقه عظيم جداً , إذ قد يكون غلبة الإلف بها سبباً لأن يتمثل فى قلبه صورتها , ويقع منه ميل إليها , وتقبض روحه عليها فيكون سببا لسوء خاتمته .
  ويعرف ذلك بمثال وهو : أن الانسان لا شك أنه يرى فى منامه من الأحوال التى ألفها طول عمره , حتى أن الذى قضى عمره فى العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء , والذى قضى عمره فى الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة والخياط , إذ لا يحضر فى حال النوم إلا ما حصل له مناسبة مع قلبه لطول الألف , والموت وإن كان فوق النوم لكن سكراته وما يتقدمه من الغشى قريب من النوم , فطول الإلف بالمعاصى يقتضى تذكرها عند الموت وعودها فى القلب وتمثلها فيه , وميل النفس إليها , وإن قبض روحه فى تلك الحالة يختم له بالسوء .
  ومنها العدول عن الاستقامة , فإن من كان مستقيماً فى ابتدائه , ثم تغير عن حاله وخرج مما كان عليه فى ابتدائه يكون سبباً لسوء خاتمته , كابليس الذى كان فى ابتدائه رئيس الملائكة , ومعلمهم , وأشدهم اجتهاداً فى العبادة , ثم لما أمر بالسجود لآدم أبى واستكبر وكان من الكافرين  .
 ومنها : ضعف الإيمان , فإن كان فى إيمانه ضعف يضعف حب الله تعالى فيه , ويقوى حب الدنيا في قلبه ويستولى عليه بحيث لا يبقى فيه موضع لحب الله تعالى , إلا من حيث حديث النفس بحيث لا يظهر له أثره فى مخالفة النفس ولا يؤثر فى الكف عن المعاصى , ولا فى الحث على الطاعات , فينهمك فى الشهوات وارتكاب السيئات , فتتراكم ظلمات الذنوب على القلب فلا تزال تطفئ ما فيه من نور الإيمان مع ضعفه , فاذا جاءت سكرات الموت يزداد حب الله ضعفاً فى قلبه لما يرى أنه يفارق الدنيا وهى محبوبة له , وحبها غالب عليه لا يريد تركها , ويتألم من فراقها , ويرى ذلك من الله تعالى فيخشى أن يحصله فى باطنه بغضه تعالى بدل الحب , وينقلب ذلك الحب الضعيف بغضاً فإن خروج روحه فى اللحظة التى خطرت فيها هذه الخطرة يختم له بالسوء ويهلك هلاكا كبيراً .
  والسبب المفضى إلى هذه الخاتمة حب الدنيا والركون إليها , والفرح بها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى وهو الداء العضال الذى قد عم أكثر الخلق فان من يغلب على قلبه عند الموت أمر من أمور الدنيا يتمثل ذلك الأمر فى قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى لغيره متسع , فإن خرجت روحه فى تلك الحالة يكون رأس قلبه منكوساً إلى الدنيا , ووجهه مصروفاً إليها , ويحصل بينه وبين ربه حجاب " .  200

الحديث التاسع والعشرون
في أن الإبل خلقت من الشياطين
 عن الحسن عن عبد الله بن مغفل المزني  قال :
  قال النبي  : " صلوا في مرابض الغنم , ولا تصلوا في أعطان الإبل , فإنها خلقت من الشياطين " .   201
   الشبهة : قالوا : رويتم أن النبي  نهى عن الصلاة في أعطان الابل لأنها خلقت من الشياطين , ونهيه عن الصلاة في أعطان الإبل لا يُنكر وهو جائز في التعبد , فلما وصلتم ذلك بأنها خلقت من الشياطين , ومن المعلوم أنها خلقت من الإبل ؟!
   والجواب :  قال أبو محمد ابن قتيبة :
  ونحن نقول إن النبي  وغير النبي يعلم أن البعير تلده الناقة , وأنه لا يجوز أن تكون شيطانة تلد جملاً , ولا أن ناقة تلد شيطاناً .
  وإنما أعلمنا  أنها في أصل الخلقة خلقت من جنس خلقت منه الشياطين , ويدلك على ذلك قوله في حديث آخر : " إنها خلقت من أعنان الشياطين " , يريد من جوانبها ونواحيها , كما يقال : بلغ فلان أعنان السماء أي : نواحيها وجوانبها , ولو كانت من نسلها لقال : فإنها خلقت من نسلها , أو بطونها , أو أصلابها , وما يشبه هذا .
  ولم تزل العرب تنسب جنساً من الإبل إلى الوحش , فتقول ناقة وحشية , وإبل وحشية , وهي أنفر الابل وأصعبها , ويزعمون أن للجن نعماً , ببلاد الحوش وأنها ضربت في نعم الناس فنتجت هذه الإبل .
  وقد يجوز على هذا المذهب أن تكون الإبل في الأصل من نتاج نعم الجن , لا من الجن أنفسها .
  ولذلك قال : " من أعنان الشياطين " , أي : من نواحيها  وهذا شئ لا ينكره إلا من أنكر الجن أنفسها والشياطين , ولم يؤمن إلا بما رأته عينه وأدركته حواسه , وهو من عقيدة قوم من الزنادقة والفلاسفة يقال : هم الدهرية وليس من عقيدة المسلمين .   202
  قال الخطابي ـ رحمه الله ـ :
   " قوله  : " فإنها من الشياطين " .
  يريد : أنها لما فيها من النفار والشرود وربما أفسدت على المصلي صلاته ، والعرب تسمي كل مارد شيطاناً كأنه يقول : كأن المصلي إذا صلى بحضرتها كان مغرراً بصلاته , لما لا يؤمن نفارها وخبطها المصلي .
  وهذا المعنى مأمون من الغنم , لما فيها من السكوت وضعف الحركة إذا هيجت " .  203
  وقال الإمام السندي :    
  قوله : " فإنها خلقت من الشياطين " ,أي إنها لما فيها من النفار والشرور بما أفسدت على المصلي صلاته فصارت كأنها في حق المصلي من جنس الشياطين " .  204
  وقال ابن جرير :
  " معناه : أنها خلقت من طباع الشياطين , وأن البعير إذا نفر كان نفاره من شيطان يعدو خلفه فينفره , ألا ترى إلى هيئتها وعينها إذا نفرت " .  205
         

الحديث الثلاثون
إن الله خلق آدم على صورته
  عن أبى هريرة  :
  عن النبى  قال : " خلق الله آدم على صورته ، طوله ستون ذراعاً ، فلما خلقه قال : اذهب فسلم على أولئك النفر من الملائكة جلوس ، فاستمع ما يحيونك ، فإنها تحيتك وتحية ذريتك .
  فقال : السلام عليكم , فقالوا : السلام عليك ورحمة الله , فزادوه ورحمة الله , فكل من يدخل الجنة على صورة آدم ، فلم يزل الخلق ينقص بعد حتى الآن " .  206
  الشبهة : ما هو المراد بأن الله تعالى خلق آدم  على صورته ؟!
  الجواب : قال ابن حبان ـ رحمه الله ـ :
  " معنى الخبر عندنا بقوله  : " خلق آدم على صورته " , إبانة فضل آدم على سائر الخلق , و " الهاء " في كلمة صورته راجعه إلى آدم ، والفائدة من رجوع " الهاء " إلى آدم دون إضافتها إلى البارئ جل وعلا ـ جل ربنا وتعالى عن أن يشبه بشئ من المخلوقين ـ أنه جل وعلا جعل سبب الخلق الذي هو المتحرك النامي بذاته اجتماع الذكر والأنثى ، ثم زوال الماء عن قرار الذكر إلى رحم الأنثى ، ثم تغير ذلك إلى العقلة بعد مردة ، ثم إلى المضغة ، ثم إلى الصورة ، ثم إلى الوقت المدود فيه ، ثم الخروج من قراره ، ثم الرضاع ، ثم إلى الفطام ، ثم المراتب الأخر على حسب ما ذكرنا إلى حلول المنية به ، هذا وصف المتحرك النامي بذاته من خلقه ، وخلق الله جل وعلا آدم على صورته التى خلقه الله عليها وطوله ستون ذراعاً من غير أن تكون هناك تقدمه اجتماع بين الذكر والأنثى ، أو زوال الماء ، أو قراره ، أو تغيير الماء علقة أو نطفة ، أو تجسيمه بعد ، فأبان الله بهذا فضله على سائر من ذكرنا من خلقه بأنه لم يكن نطفة فعلقة ، و لا علقة فمضغة ، ولا مضغة فرضيعاً ، ولا مضغة فرضيعاً ، ولا رضيعاً ففطيماً .  . , كما كنت هذه حالة غيره " .   207
  وقال الإمام ابن حجر ـ رحمه الله ـ :
  " والمعنى : أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها لم ينتقل في النشأة أحوالاً , ولا تردد في الأرحام أطواراً كذريته , بل خلقه الله رجلاً كاملاً سوياً من أول ما نفخ فيه الروح , ثم عقب ذلك بقوله : وطوله ستون ذراعاً فعاد الضمير أيضاً على آدم , والله أعلم " .    208
 وقال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ :  
  " وهذه الرواية ظاهرة فى أن الضمير فى " صورته " عائد إلى آدم , وأن المراد أنه خلق فى أول نشأته على صورته التى كان عليها فى الأرض , وتوفى عليها  , وهى طوله ستون ذراعاً  , ولم ينتقل أطواراً كذريته  , وكانت
صورته فى الجنة هي صورته فى الأرض لم تتغير " .    209
  وقال علماء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء :
  " هذا حديث صحيح ، ولا غرابة في متنه فإن له معنيان :
  الأول : أن الله لم يخلق آدم صغيراً قصيراً كالأطفال من ذريته , ثم نما وطال حتى بلغ ستين ذراعاً ، بل جعله يوم خلقه طويلاً على صورة نفسه النهائية طوله ستون ذراعاً .
  والثاني : أن الضمير في قوله " على صورته " , يعود على الله , بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة : " على صورة الرحمن "    210.
  وهو ظاهر السياق ولا يلزم على ذلك التشبيه ، فإن الله سمى نفسه بأسماء سمى بها خلقه , ووصف نفسه بصفات وصف بها خلقه ، ولم يلزم من ذلك التشبيه وكذا الصورة ، ولا يلزم من إتيانها لله تشبيهه بخلقه , لأن الإشتراك في الاسم وفي المعنى الكلي لا يلزم منه التشبيه فيما يخص كلا منهما ، لقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } " .  211
  وقال الشيخ عطية صقر :
  " والضمير فى قوله " صورته " يصح أن يكون راجعاً إلى الله تعالى ، أى خلقه على صفة الله من الحياة والعلم والسمع والبصر وغيرها ، أو يكون راجعاً إلى آدم ، أى أن الله أوجده على هذه الصورة والهيئة التى خلقه عليها ، لم تنتقل فى النشأة أحوالا ، ولا تردد فى الأرحام أطواراً كذريته ، بل خلقه رجلاً كاملاً سوياً من أول ما نفخ فيه الروح .
  وهذا التفسير يرد على الطبيعيين والماديين أصحاب مذهب النشوء والإرتقاء ، الذين يزعمون أن آدم أصله قرد تطور حتى صار بهذا الشكل ، وإذا كانت هناك غرابة فى طوله وهو ستون ذراعاً كما رواه البخاري ومسلم ، فإن أثر البيئة على طول الأجسام وقصرها معروف فى كثير من المناطق فى العالم كله " .   212
  وقال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ :
  " الصحيح المتعين : أن الضمير في " صورته " , يعود إلى الله عز وجل ؛ ولكن هل يلزم من كون الله خلق آدم على صورته أن يكون مماثلاً له ؟!
  الجواب : لا .
  أولاً : لأن الله قال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } الشورى :11، فنحن نؤمن بأن الله ليس كمثله شيء ، ونؤمن بأن الله خلق آدم على صورته , لأن الأول قول الله , والثاني قول رسول الله  وكلاهما يجب علينا الإيمان بهما والتصديق .
  فإذا قال قائل : كيف يُتصور أن يكون الشيء على صورة الشيء , وليس مماثلاً له ؟! وهذا هو الذي يَرِد على النفس !
  نقول : أليس قد ثبت عن النبي  أن : " أول زمرة تدخل الجنة تكون على صورة القمر ليلة البدر " ، وهل يلزم من كون هذه الزمرة على صورة القمر أن تكون مثل القمر ؟!
  الجواب : لا . إذاً لا يلزم من كون الله خلق آدم على صورته أن يكون مماثلاً له عز وجل هذا قول , وهو قول ظاهر وليس فيه تأويل ، ولا خروج عن ظاهر اللفظ .
  والقول الثاني : أن الضمير في " صورته " , يعود على الله , لكن هذا من باب إضافة الشيء إلى الله على وجه التكريم والتشريف , مثل : { نَاقَةَ اللَّهِ }  في قوله تعالى : { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ } الشمس : 13 , فهل لله ناقة يركبها مثلاً ؟! حاشا وكلا ! لكن أضاف الرسول الناقة إلى الله من باب التشريف .
  كذلك قال الله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ } البقرة :114 المساجد هي للناس يصلون فيها ! فهل الله عز وجل يكون في هذه المساجد ؟! لا , بل الله تعالى في السماء على عرشه ؛ لكن أضاف الله المساجد إليه لأنها محل عبادته ، وأهل للتشريف والتكريم .
  نعود إلى روح آدم فنقول : الله سبحانه وتعالى قال للملائكة: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ }  ص : 72  ,  فهل روح آدم هي
روح الله ؟!
  لا , أبداً , بل روح آدم روح مخلوقة خلقها الله ؛ لكن أضافها الله إليه على سبيل التشريف , فقوله : " على صورته " , يعني : على الصورة التي صورها الله عز وجل ، وأضافها الله على سبيل التشريف .
  فإذا قال قائل : وصورة الرجل الآدمي ، أليس الله هو الذي صورها ؟!
  قلنا : بلى , الله هو الذي صورها ؛ لكن لا تستحق أن تضاف إلى الله ، فأشرف ما خلق الله هم بنو آدم ، قال الله تبارك وتعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } التين :4، لا يوجد أحد أحسن خلقاً من الخلق الإنساني .
  إذاً : تكون صورة آدم ليست كصورة غيره من البشر ، ولهذا استحقت أن تضاف إلى الرب عز وجل تشريفاً وتكريماً.
  فصار الحديث له معنيان : المعنى الأول : إجراؤه على ظاهره ، وأن نقول: لا يلزم من كون الله خلق آدم على صورته أن يكون مماثلاً لله .
  المعنى الثاني : أن يقال " على صورته " , بمعنى : أن الله خلق آدم على الصورة التي اختارها وأضافها إليه على سبيل التشريف ، ولهذا قال  : " لا يُقبَّح الوجه ولا يُضرب " , فتتغير هذه الصورة التي خلقها الله عز وجل .
         

الحديث الحادي والثلاثون
الحبة السوداء شفاء من كل داء
 عن أبي هريرة  قال :
  قال رسول الله  : " في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام " .213  
  الشبهة : قالوا : إن الحبة السوداء تحتوي على أدوية كثيرة تفيد في علاج أمراض كثيرة ، ولكنها لا تفيد في بعض الأمراض ، فكيف يقول النبي  أنه شفاء من كل داء ؟
  الجواب : يجيب عن هذه الشبهة الدكتور / محمد بكر إسماعيل فيقول :
  " إن قول النبي  : " شفاء من كل داء " , ليس معناه كل الأمراض , لأن " كل " في اللغة لا تفيد مطلق العموم , وإنما معنى هذا : أنها شفاء لكل الأمراض التي تقبل الشفاء بها .
  وقد روى البخاري في صحيحه عن خالد بن سعد قال : خرجنا ومعنا غالب بن أبجر ، فمرض في الطريق ، فقدمنا المدينة وهو مريض ، فعاده ابن أبي عتيق فقال لنا : عليكم بهذه الحبيبة السويداء ، فخذوا منها خمساً أو سبعاً ، فاسحقوها ، ثم اقطروها في أنفه بقطرات زيت في هذا الجانب وهذا الجانب ، فإن عائشة ـ رضي الله عنها ـ حدثتني أنها سمعت النبي  يقول : " إن الحبة
السوداء شفاء من كل داء إلا من السام " قلت : وما السام ؟ قال : الموت " .
  والحبة السوداء يسميها بعض العلماء بالكمون الأسود , أو الكمون الهندي كما ذكر ابن حجر في شرح هذين الحديثين .
  وقد رأيت في المعجم الوسيط أنها " حبة البركة " ، وتسمى بالحبة المباركة  وتسمى في بعض البلاد " بالشونيز " ، وزيتها يسمى زيت حبة البركة ، وهذا ما أقره مجمع اللغة .
  ولا ينبغي أن يؤخذ قوله  : " شفاء من كل داء " على عمومه , فإنه من قبيل العام المخصوص ، كما يقول علماء الحديث والأصول والطب .
  والمعنى : هي شفاء من كل داء يقبل العلاج بها , فهي كما قال ابن حجر : " إنما تنفع في الأمراض الباردة "    214, وهي أمراض يعرفها الأطباء ويشخصونها .
  وهي تستخدم وحدها أحيانا ، وتستخدم مخلوطة بالعسل وغيره أحيانا , ولها فوائد كثيرة ذكرها داود الإنطاكي في كتاب" التذكرة " ذكرها في " الشونيز " وهو ما يسمى بالحبة السوداء .
  واعلم : أن العموم لا يبقى على عمومه دائماً ، بل يخصص في كثير من الأحكام والأخبار بحسب القرائن والأحوال .
  واعلم أن الأدواء عند العرب كانت محدودة ، وقول الرسول  : " الحبة السوداء شفاء من كل داء "  أي : من أكثر الأدواء المعروفة عندهم , ولفظ  " كل " لا يفيد العموم المطلق كما يتوهم كثير من الناس ، فقد جاء في القرآن الكريم عن الريح التي أرسلها الله على قوم عاد أنها دمرت كل شيء , مع أنها لم تدمر إلا الناس ، اقرأ قوله تعالى في سورة الأحقاف : { تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } ومعنى هذا : أنها لم تدمر المساكن ولكنها دمرت الأشخاص ، بدليل قوله في آية أخرى من سورة القمر : { تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر} , وقوله تعالى في سورة الحاقة : { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية } .
  وجاء عن بلقيس أنها أوتيت من كل شيء ، أي : أوتيت من كل ما تحتاج إليه ، قال تعالى في سورة النمل : { إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم } .
  وأنت تقول لصديقك : الحمد لله أنا عندي كل شيء , فهل تعني أن عندك كل موجود في الوجود ؟ أم تعني أنك تملك الكثير مما تحتاج إليه , وتحمد الله عليه راضيا به .
أما قوله  : " إلا السام " فليس من باب الإستثناء المتصل , لأن السام ليس داء , بل هو قطع للأجل وإنهاء الحياة ، ولكنه من باب الاستثناء المنقطع ، فهو بمعنى ( لكن ) كأنه قال : لكن الموت ليس له شفاء , بياناً لقوله تعالى : { فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون }.
  والاستثناء المتصل هو أن يكون ما بعد حرف الاستثناء من جنس المستثنى منه ، مثل قولك : نجح التلاميذ إلا تلميذا .
  والاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه ، مثل قولك : أقبل الناس إلا جملاً , فالجمل ليس من جنس الناس ، وعلى ذلك يكون المعنى : أقبل الناس ، لكن جملاً لم يقبل .
  وقد ظهر لنا من هذا البيان أن الحبة السوداء ليست شفاء لكل داء على وجه العموم ، ولكنه من باب العموم المخصوص بقرينة الواقع المشاهد في عالم الطب ، والواقع خير دليل على التخصيص ، ولفظ ( كل ) لا يفيد العموم المطلق كما عرفنا ، ولكنه يفيد الأكثرية ، بخلاف لفظ ( جميع ) فإنه يفيد العموم المطلق غالباً , إذا لم يرد ما يخصصه , ولهذا أكد الله سجود الملائكة لآدم بلفظ { أجمعون} بعد لفظ { كل } , فقال : { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } فلو كان لفظ {كل} يفيد العموم المطلق بنفسه ما كان هناك داع للمؤكد الآخر , والله أعلم " .
         
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 6:18 pm

الحديث الثاني والثلاثون
من سن سنة حسنة
 عن جرير بن عبد الله  قال :
  جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله  عليهم الصوف , فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة , فحث الناس على الصدقة فأبطؤا عنه حتى رؤى ذلك في وجهه , قال : ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من ورق , ثم جاء آخر , ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه , فقال رسول الله  : " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء , ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء " .  215
   الشبهة : اتخذ أهل البدع والأهواء هذا الحديث ذريعة لهم في استحلال ما يفعلوه من العبادات والطاعات التي لم ترد , وقالوا : أن معنى كلمة : " من سن " في هذا الحديث أي : من اخترع في الدين ، فكيف تذمون الإبتداع على الإطلاق ؟!
   الجواب : أجاب عن هذه الشبهة الشيخ على محفوظ فقال :
  " والجواب عن هذه الشبهة أنه ليس المراد الإستنان بمعنى الإختراع ، وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية وذلك على وجهين :
  الأول : أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة ، فدل على أن السنة هنا مثل ما فعل الصحابي ، حيث أتى بتلك الصرة ـ الكيس ـ , فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ ، والصدقة المشروعة بالإتفاق ، فكأنها كانت سنة نائمة أيقظها بفعله فليس معناه من اخترع سنة ولم تكن ثابتة .
  ثانياً : قوله  : " من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة " , لا يمكن حملة على الإختراع ، لأن كون السنة حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع ، لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه , وهو مذهب أهل السنة والجماعة ، وإنما يقول التحسين والتقبيح بالعقل المبتدعة ، فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع ، وإما قبيحة بالشرع فلا يصدق إلا على الصدقة المذكورة ، وما أشبهها من السنن المشورعة ، وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصى التى ثبت بالشرع كونها معاصى كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم حيث قال  : " لأنه أول من سن القتل " , ومنزلة على البدع , لأنه قد ثبت ذمها والنهى عنها بالشرع كما تقدم .
  وحاصل الجواب الثاني : أن الحديث حجة على المبتدع , لا له , لمكانة قوله " حسنة " , مع العلم بأن المُحسِن هو الشرع ، فقد وجد في الحديث معنى يعود على فهم المبتدع بالإبطال ، فوجب على من سن عمل أو أحياه ، دون اختراع .
  وإذا قطع النظر عن سبب الحديث , يصح أن يراد منه الإختراع في أمور الدنيا والتفنن فيها على وجه يلتئم مع أصول الدين ومقاصده ، كاختراع الملاجئ والمستشفيات لإيواء اليتامى والبائسين ، ومداواة المرضى من الفقراء  وصرف الأدوية لهم من غير أجر ولا ثمن ، ومثل تكثير المعاهد الدينية ، وبناء الأروقة ودور السكنى لطلاب العلم ، وإعانتهم عليه لا سيما الغرباء منهم  فكل هذه المخترعات وما شاكلها سنن حسنة يؤجر عليها صاحبها ، ويمدح عليها ولا  يذم .
  فإن شئت فهمت في الحديث الحث على إحياء السنة الدينية التى ورد بها الشرع , كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، والإحسان إلى الفقراء والنصيحة لكل مسلم , والتعاون على البر , وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لها ، إلى غير ذلك من الأعمال النى دعا إليها الدين وحث على إحيائها .
  وإن شئت فهمت فيه الحث على التفكير في الأمور الكونية التي ترقى بها الشعوب وتتقدم الأمم .
   ومعلوم أن الدين إنما نهى عن الإختراع فيما حدده ورسمه على وجه مخصص كالعبادات ، فلا يصح لك أن تغير فيه شيئاً بزيادة أو نقص , أو تبديل كيفيه من كيفياته ، ولم يمنع ما يمكن من أنواع الإختراع في الأمور المعيشية والإجتماعية والعمرانية بشرط المحافظة على الأصول العامة ، وأن يكون أساس هذا الإختراع درء المفاسد , وجلب المصالح , وإقامة العدل وإماطة الظلم , ورد المظالم الى ذويها كما تقدم . أهـ " .  216
         

الحديث الثالث والثلاثون
حديث الذباب
 عن أبا هريرة  قال :
  قال النبي  : " إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه , فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء " .  217
   الشبهة : هذا الحديث من الأحاديث التي أثيرت حولها العديد من الشبهات قديماً , ولا تزال حتى اليوم تثار وتردد بصيغة أو بأخرى - على الرغم من التقدم الطبي والتكنولوجي والذي أثبت بما لا يدع مجالاً للشك تصديقها وكونها معجزة من معجزات نبينا  - أحاديث وقوع الذباب في الإناء ، مع أنها أحاديث في غاية الصحة أخرجها البخاري وغيره ، وسنقف مع هذه الأحاديث والروايات والألفاظ الواردة ، ومجمل الشبه التي أثيرت حولها ، وردود العلماء والأئمة وأجوبتهم عن ذلك كله .
  ولقد طعن أهل البدع والضلال قديماً في صحة هذا الحديث بحجة أنه مخالف للعقل والواقع ، وأثاروا حوله العديد من الشبه ، فانبرى للرد عليهم ودحض شبهاتهم أئمة الحديث وعلماؤه الذين جمعوا بين المعقول والمنقول , فبينوا فساد تلك الشبه وبطلانها بالأدلة البينة والحجج الدامغة ، ومن أولئك الإمام ابن قتيبة الدينوري ـ رحمه الله ـ فقد ذكر في كتابه " تأويل مختلف الحديث " أنه حديث صحيح ، وأنه روي بألفاظ مختلفة ، وذكر أن الطعن في الأحاديث بغير وجه حق يعتبر انسلاخاً من الإسلام وتعطيلاً للأحاديث ، وأن دفع الأخبار والآثار مخالف لما جاء به الرسول  ولما درج عليه الخيار من صحابته والتابعين .
  ومن أولئك أيضاً الإمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ في كتابه " مشكل الآثار " والإمام الخطابي في " معالم السنن " ونقله عنه الحافظ في الفتح ، والإمام ابن القيم في " زاد المعاد " وغيرهم ، وجاء بعض المعاصرين فطعنوا في هذا الحديث كما طعن فيه أسلافهم من أهل الإبتداع قبلهم ، وزادوا شبهاً من عند أنفسهم أنتجتها عقولهم السقيمة التي جهلت حرمة النصوص ، وأساءت فهمها ، فسارعت إلى إنكارها والطعن فيها كما هو منهجها مع كل نص لا يتماشى مع أهوائهم وعقولهم ، ويمكن تلخيص شبهاتهم حول الحديث في جملة أمور :
  الأول : إن إخراج البخاري للحديث لا يمنع من التماس علة في رجاله تمنع من صحته ، وهذه العلة - كما زعموا - هي كونه من رواية أبي هريرة وقد ردوا له أحاديث كثيرة ، وكذلك انفراد ابن حنين ـ أحد رواة الحديث ـ به ، وقد تكلم فيه من وجوه عدة .
  الثاني : أنه حديث آحاد يفيد الظن ، فلا إشكال في رده ، وهو غريب عن التشريع لأنه ينافي قاعدة تحريم الضار ، واجتناب النجاسة ، وغريب عن الرأي لأنه يفرق بين جناحي الذباب ، فيدعي أن أحدهما به سم ضار ، والآخر ترياق نافع .
  الثالث : أن العلم يثبت بطلانه لأنه يقطع بمضار الذباب .
  الرابع : أن موضوع متنه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته ، ولا من شرائعه ، ولا التزم المسلمون العمل به ، بل لم يعمل به أحد منهم لأنه لا دخل له في التشريع ، وإنما هو في أمور الدنيا كحديث " تأبير النخل " ، وبالتالي من ارتاب فيه لم يضع من دينه شيئاً.
  الخامس : أن تصحيحه من المطاعن التي تنفر عن الإسلام ، وتكون سبباً في ردة بعض ضعاف الإيمان ، كما أنه يفتح على الدين شبهة يستغلها الأعداء المتربصين .
   وللجواب عن هذه الشبهات نقول وبالله التوفيق :
  أما ما يتعلق بالشبهة الأولى فإن البخاري ـ رحمه الله ـ لم ينفرد بإخراج هذا الحديث ، كما أن أبا هريرة لم ينفرد بروايته عن النبي  ، وكذلك عبيد بن حنين لم ينفرد بروايته عن أبي هريرة .
  فالحديث أخرجه البخاري و أبو داود و ابن ماجه و الدارمي و البيهقي ، و ابن خزيمة ، و أحمد ، و ابن حبان ، و البغوي و ابن الجارود من حديث أبي هريرة  .
  وأخرجه النسائي ، و ابن ماجه ، و البيهقي ، و أحمد ، و ابن حبان ، و البغوي من حديث أبي سعيد  .
  كما أخرجه البزار و الطبراني من حديث أنس بن مالك  .
  ورواه عن أبي هريرة جماعة من التابعين ، وهم عبيد بن حنين ، و سعيد المقبري ، و ثمامة بن عبد الله بن أنس ، و أبو صالح ، و محمد بن سيرين .
  ولو لم يرد هذا الحديث إلا في صحيح البخاري ، لكان ذلك كافياً للحكم عليه بالصحة لما علم من إجماع الأمة على تلقي أحاديثه بالقبول ، ولم يستدرك هذا الحديث على البخاري أحد من أئمة الحديث ، ولم يقدح في سنده أي منهم ، بل هو عندهم مما جاء على شرط البخاري في أعلى درجات الصحة .
  وحتى لو تفرد به أبو هريرة لما كان لطعنهم فيه من سبيل وحجة ، لما ثبت من حجيته وجلالته وحفظه .
  وأما عبيد بن حنين فهو ثقة لا مطعن فيه ، ولم يذكره الحافظ في مقدمة الفتح فيمن تُكلِم فيهم من رجال البخاري ، وحتى لو فرض أنه تفرد برواية الحديث عن أبي هريرة لقبل تفرده لأن تفرد مثله لا يقدح في صحة الحديث .
  وأما كونه من أخبار الآحاد ، فإن الأدلة شاهدة من كتاب الله ، وحديث النبي  وأقوال السلف ، بل وإجماعهم - كما نقله غير واحد كالشافعي و النووي و الآمدي وغيرهم - على الاحتجاج بحديث الآحاد ، وقبول الاستدلال به في العقائد والعبادات على حد سواء ، وهي أدلة كثيرة لا تحصى ، وليس هذا مجال سردها .
  وأما الادعاء بأنه غريب عن التشريع لأنه ينافي قاعدة تحريم الضار واجتناب النجاسة ، فيرده بأن الحديث لم ينف ضرر الذباب , بل أثبت ذلك حيث ذكر أن في أحد جناحيه داء ، ولكنه زاد ببيان أن في الآخر شفاء ، وأن ذلك الضرر يزول إذا غمس الذباب كله .
  قال ابن القيم  ـ رحمه الله ـ :  
  " واعلم أن في الذباب عندهم قوة سمية يدل عليها الورم ، والحكة العارضة عن لسعه ، وهي بمنزلة السلاح ، فإذا سقط فيما يؤذيه ، اتقاه بسلاحه ، فأمر النبي  أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء  فيغمس كله في الماء والطعام ، فيقابل المادة السمية المادة النافعة ، فيزول ضررها ، وهذا طب لا يهتدي إليه كبار الأطباء وأئمتهم ، بل هو خارج من مشكاة النبوة ، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا العلاج ، ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق ، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوة البشرية " .  218
  والقول بنجاسة الذباب لا دليل عليه ، لأنه لا ملازمة بين الضرر والنجاسة ، ولذا كان هذا الحديث من أدلة العلماء على أن الماء القليل لا ينجس بموت ما لا نفس له سائلة فيه ، فالحديث لم يفصل بين موت الذباب وحياته عند غمسه .
  قال الإمام الخطابي ـ رحمه الله ـ :
  " فيه من الفقه : أن أجسام الحيوان طاهرة إلا ما دلت عليه السنة من الكلب وما ألحق به ، وفيه دليل على أن ما لا نفس له سائلة إذا مات في الماء القليل لم ينجسه ، وذلك أن غمس الذباب في الإناء قد يأتي عليه ، فلو كان نجسه إذا مات فيه لم يأمر بذلك ، لما فيه من تنجس الطعام وتضييع المال ، وهذا قول عامة العلماء " .  219
  وقال ابن القيم :  
  " هذا الحديث فيه أمران : أمر فقهي ، وأمر طبي ، فأما الفقهي : فهو دليل ظاهر الدلالة جداً على أن الذباب إذا مات في ماء أو مائع فإنه لا ينجسه ، وهذا قول جمهور العلماء ، ولا يعرف في السلف مخالف في ذلك .
  ووجه الاستدلال به أن النبي  أمر بمقله ، وهو غمسه في الطعام ، ومعلوم أنه يموت من ذلك ، ولا سيما إذا كان الطعام حاراً , فلو كان ينجسه لكان أمرا بإفساد الطعام ، وهو  إنما أمر بإصلاحه ، ثم عدى هذا الحكم إلى كل ما لا نفس له سائلة ، كالنحلة والزنبور والعنكبوت وأشباه ذلك ، إذ الحكم يعم بعموم علته ، وينتفي لانتفاء سببه ، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته ، وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاء علته " .  220
  أما الإدعاء بأنه غريب عن الرأي لأنه يفرق بين جناحي الذباب فيدعي أن أحدهما يحمل سماً والآخر شفاء ، فهو قول مناهض للحديث ، فرسول الله  هو الذي فرق بينهما ، كما أن هذا الإدعاء مخالف للواقع الذي يجوز اجتماع كثير من المتضادات في الجسم الواحد كما هو مشاهد معروف .
  ولو رجع أحدهم إلى أجوبة العلماء المتقدمين عن ذلك لوجد الجواب الشافي  
  قال الإمام الخطابي :
  " وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له ، وقال : كيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة , وكيف تعلم ذلك حتى تقدم جناح الداء وتؤخر
جناح الشفاء وما أربها إلى ذلك ؟
  أولا : المعروف بالذباب في لغة العرب هو : هذا النوع الذي يسقط على القاذورات والأوساخ ، والذي يسقط في الطعام أو الشراب ، وبهذا الفهم أيضاً هو ما يقصده الأطباء ، فهو ليس عاماً إذن في كل ما يطير بجناحيه .
  وهذا سؤال جاهل أو متجاهل ، وإن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت ، ثم يرى الله عز وجل قد ألف بينها وقهرها على الإجتماع ، وجعلها سببا لبقاء الحيوان وصلاحه ، لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والدواء في جزأين من حيوان واحد ، وأن الذي ألهم النحل أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه ، وألهم النملة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه هو الذي خلق الذبابة ، وجعل لها الهداية أن تقدم جناحاً وتؤخر آخر ، لما أراد من الإبتلاء الذي هو مدرجة التعبد ، والإمتحان الذي هو مضمار التكليف  وفي كل شيء عبرة وحكمة وما يذكر إلا أولوا الألباب " .  221
  وقال ابن قتيبة :
  " فما ينكر من أن يكون في الذباب سم وشفاء ، إذا نحن تركنا طريق الديانة ورجعنا إلى الفلسفة ؟ وهل الذباب في ذلك إلا بمنزلة الحية ؟ فإن الأطباء يذكرون أن لحمها شفاء من سمها إذا عمل منه الترياق الأكبر ، ونافع من لدغ العقارب , وكذلك قالوا في العقرب : إنها إذا شق بطنها ، ثم شدت على موضع اللسعة نفعت . . إلخ ، والأطباء القدماء يزعمون أن الذباب إذا ألقي في الإثمد وسحق معه ثم اكتحل به زاد ذلك في نور البصر ، وشد مراكز الشعر من الأجفان في حافات الجفون , وقالوا في الذباب : إذا شدخ ووضع على موضع لسعة العقرب سكن الوجع ، وقالوا : من عضه الكلب احتاج إلى أن يستر وجهه من سقوط الذباب عليه لئلا يقتله , وهذا يدل على طبيعة فيه شفاء , أو سم " .  222
  والمهم من إيراد هذا الكلام : أن اجتماع المتضادات في الجسم الواحد ليس بمستغرب شرعاً ولا حساً ولا واقعاً .
  وأما أن العلم يثبت بطلان الحديث لأنه يقطع بمضار الذباب ، فإن الحديث كما سبق لم ينف ضرر الذباب بل نص على ذلك صراحة .
  وهل علماء الطب وغيرهم أحاطوا بكل شيء علماً حتى يصبح قولهم هو الفصل الذي لا يجوز مخالفته ، بل هم معترفون بأنهم عاجزون عن الإحاطة بكثير من الأمور ، وهنالك الكثير من النظريات التي كانت تؤخذ إلى عهد قريب على أنها مسلمات تبين بطلانها وخطؤها فيما بعد ، بينما الذي نطق به رسول الله  وحي من عند الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ، وأي إشكال في أن يكون الله تعالى قد أطلع رسوله  على أمر لم يصل إليه علم الأطباء بعد ؟ وهو سبحانه خالق الحياة والأحياء : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } الملك : 14 ، فلماذا لا يكون ما يحمله الذباب على جناحه من شفاء مما خفي علمه عن الأطباء اليوم ؟.
  ومن قال بأن عجلة الطب قد توقفت بما لا مزيد عليه ، ولا يزال الأطباء يطلون على العالم في كل يوم باكتشافات جديدة ، وعلاجات لأمراض كانت إلى عهد قريب مستعصية ، وأدوية وعقاقير لم تكن معروفة من قبل .
  وهل يتوقف إيماننا بصدق كل حديث ورد فيه أمر طبي عن النبي  حتى يكشف لنا الأطباء بتجاربهم صدقه أو بطلانه ؟ فأين إيماننا بالغيب إذاً ، وأين إيماننا بصدق نبوة رسول الله  ووحي الله إليه ؟!.
  إن حديث رسول الله  برهان قائم بنفسه لا يحتاج إلى دعم خارج عنه ، والذي يجب على الأطباء وغيرهم من عامة الناس هو التسليم بما جاء فيه وتصديقه ، فإن هذا هو مقتضى الإسلام والإيمان بغض النظر عن موقف الطب منه ما دام ثابتاً عن رسول الله  .
  هذا كله يقال على فرض أن الطب الحديث لم يشهد لهذا الحديث ولم يؤيد ما جاء به ، مع أن الواقع خلاف ذلك فقد وجد من الأطباء المعاصرين - لا نقول المسلمين منهم بل حتى الغربيين - من أيد مضمون ما جاء به الحديث من الناحية الطبية ، وأنه من معجزات نبينا  وهنالك العشرات من البحوث والمقالات في هذا الجانب .
  ولسنا بصدد ذكر الأبحاث العلمية التي تفسر الحديث وجوانب الإعجاز فيه ، والخوض في تفصيلات ذلك ، وكل هذه الأبحاث تؤكد بل تجزم بعدم وجود أي تعارض بين الحديث وبين المكتشفات الطبية الحديثة .
 
  قال محمد كامل عبد الصمد :
  " من معجزاته الطبية  التي يجب أن يسجلها له تاريخ الطب بأحرف ذهبية ذكره لعامل المرض وعامل الشفاء , محمولين على جناحى الذبابة قبل اكتشافهما بأربعة عشر قرنا .
  وذكره لتطهير الماء إذا وقع الذباب فيه وتلوث بالجراثيم المرضية الموجودة في أحد جناحيه نغمس الذبابة في الماء لإدخال عامل الشفاء الذي يوجد في الجناح الآخر , الأمر الذي يؤدي إلى إبادة الجراثيم المرضية الموجودة بالماء وقد أثبت التجارب العلمية الحديثة الأسرار الغامضة التي في هذا الحديث .
  أن هناك خاصية في أحد جناحي الذباب هي : أنه يحول البكتريا إلى ناحية  وعلى هذا فإذا سقط الذباب في شراب أو طعام وألقى الجراثيم العالقة بأطرافه في ذلك الشراب أو الطعام , فإن أقرب مبيد لتلك الجراثيم , وأول واحد منها هو مبيد البكتريا يحمله الذباب في جوفه قريباً من أحد جناحيه , فإذا كان هناك داء فدواؤه قريب منه , ولذا فإن غمس الذباب كله وطرحه كاف لقتل الجراثيم التي كانت عالقة به , وكاف في إبطال عملها , كما أنه قد ثبت علمياً أن الذباب يفرز جسيمات صغيرة من نوع الإنزيم تسمى " باكتر يوفاج " أي مفترسة الجراثيم , وهذه المفترسة للجراثيم " الباكتر يوفاج " أو عامل الشفاء صغيرة الحجم يقدر طولها بــ 20ميلي ميكرون , فإذا وقعت الذبابة في الطعام أو الشراب وجب أن تغمس فيه كي تخرج تلك الأجسام الضدية , فتبيد الجراثيم التي تنقلها من هنا .
  فالعلم قد حقق ما أخبر عنه النبي  بصورة إعجازية لمن يرفض الحديث وقد كتب الدكتور/ أمين رضا أستاذ جراحة العظام بكلية الطب جامعة الإسكندرية بحثاً عن حديث الذبابة , أكد فيه أن المراجع الطبية القديمة فيها وصفات طبية لأمراض مختلفة باستعمال الذباب .
  وفي العصر الحديث صرح الجراحون الذين عاشوا في السنوات العشر التي سبقت اكتشاف مركبات السلفا , أي : في الثلاثينيات من القرن الحالي بأنهم قد رأوا بأعينهم علاج الكسور المضاعفة والقرحات المزمنة بالذباب , ومن هنا يتجلى أن العلم في تطوره قد أثبت في نظرياته العلمية موافقته وتأكيده على مضمون الحديث الشريف مما يعد إعجازا علميا قد سبق به العلماء الآن " .  223
  أما الزعم بأنه ليس من عقائد الإسلام ولا من عباداته ، ولا دخل له في التشريع ، وإنما هو من أمور الدنيا التي يجوز على النبي  فيها الخطأ ، كحديث " تأبير النخل " ، فالغرض منه تحقير الحديث والتهوين من أمره وتنفير الناس عنه ، وبالتالي فإن من رده , أو ارتاب فيه لم يؤثر ذلك على دينه في شيء ، وهو أمر في غاية الخطورة والتلبيس ، لأن أمور الدنيا منها ما هو خاضع لأحكام الشرع ، فهي داخلة تحت الأمر بطاعة رسول الله , والنهي عن مخالفته ، وأمره  قد يكون واجباً وقد يكون مستحباً ، وقياس حديث الذباب وغيره من أحاديث الطب النبوي على أحاديث تأبير النخل قياس غير صحيح لأن معظم أحاديث الطب إن لم تكن كلها ساقها النبي  مساق القطع واليقين مما يدل على أنها بوحي من الله سبحانه وداخلة في التشريع ، فقال في حديث الذباب : " فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء " فأتى بـ ( إن ) المفيدة للتأكيد ، بخلاف أحاديث تأبير النخل التي ساقها  مساق الرجاء والظن لأنها في أمور الدنيا ومعايشها فقال : " لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً " وفي رواية : " ما أظن يغني ذلك شيئاً " , وفرق كبير بين الأسلوبين ، ولذلك قال الإمام النووي عند شرحه لقول النبي  في حديث تأبير النخل : " وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر "  قال العلماء : قوله  : " من رأي " أي : في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع ، فأما ما قاله باجتهاده  ورآه شرعاً يجب العمل به ، وليس أبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله .   224
  فما وقع في حديث التأبير كان ظناً منه  وهو صادق في ظنه , وخطأ الظن ليس كذباً ، وقد رجع عن ظنه الذي ظنه في قوله : " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه " بخلاف ما جاء في حديث الذباب ، فإنه أخبر بأن في أحد جناحيه داء والآخر شفاء وهذا لا يكون إلا بوحي من الله تعالى ، وهو أمر لا يحتمل خلاف ما أخبر به ، ثم أمر بغمس الذباب ، بناء على العلة السابقة ، ولم يأت ما ينقض هذا الأمر ولا ذاك فوجب التسليم والإذعان وعدم الإنكار .
  وادعاء أن المسلمين لم يلتزموا به ، ولم يعمل به أحد منهم ، ادعاء كاذب يخالفه ما ثبت عن بعض الصحابة والتابعين ، فقد ذكر الحافظ في الفتح أن عبد الله بن المثنى روى عن عمه ثمامة أنه حدثه قال : " كنا عند أنس فوقع ذباب في إناء ، فقال أنس بأصبعه فغمسه في ذلك الإناء ثلاثاً ثم قال : بسم الله ، وقال
إن رسول الله  أمرهم أن يفعلوا ذلك " .  225
  وأما القول بأن تصحيح الحديث من المطاعن التي تنفر عن الإسلام  ، وتكون سبباً في ردة بعض ضعاف الإيمان ، وأنه يفتح على الدين ثغرة يستغلها الأعداء للاستخفاف بالدين والمتدينين ، فهو قول يحمل في طياته استدراكاً على النبي  الذي كان أحرص الناس على الدين ، وأنصح الخلق للخلق ، وأكثر العباد خشية وتقوى لله ، وهو الذي حمى جناب الإسلام ، وسد كل منافذ الطعن والقدح فيه ، وكان أحرص الناس على هداية الخلق وإبلاغهم رسالة الله  وشريعة الله تعالى ليس فيها ما ينفر ، لأنها شريعة تقبلها القلوب السليمة ، وتقتنع بها العقول الصحيحة .
  فما هو وجه التنفير في الحديث ؟ وما هي الثغرة التي يفتحها على الدين حتى يستغلها أعداء الإسلام ؟ هل لأنه لا يتماشى مع أذواقنا وأمزجتنا ؟ وهل سيقف الأعداء فيما يثيرونه حول الإسلام عند حديث الذباب وسيكتفون بذلك ، ونحن نراهم يثيرون الشكوك والشبه في أمور لا تخفى على أحد ، بل حتى القرآن الذي نقل بالتواتر جيلاً بعد جيل لم تسلم نصوصه وأحكامه من شبههم وتشكيكهم ، فهل إذا رددنا حديث الذباب بل ورددنا السنة كلها ، ثم إن الأمر بغمس الذباب في الإناء أو الطعام الذي وقع فيه ، إنما هو للإرشاد والتعليم وليس على سبيل الوجوب ، وليس في الحديث أبداً أمر بالشرب من الشراب ، ولا أمر بالأكل من الطعام بعد الغمس والإخراج ، بل هذا متروك لنفس كل إنسان , فمن أراد أن يأكل منه أو يشرب فله ذلك ، ومن عافت نفسه ذلك فلا حرج عليه ، ولا يؤثر ذلك على دينه وإيمانه مادام مصدقاً بحديث رسول الله  والشيء قد يكون حلالاً ولكن تعافه النفس كالضب مثلاً ، فقد كان أكله حلالاً ومع ذلك عافته نفس رسول الله  ، ولم يأكل منه لأنه لم يكن بديار قومه .
  والعلماء والمحدثون حين يصححون الحديث رواية ومعنى لا يعنون عدم حض الناس على مقاومة الذباب وتطهير البيوت والطرقات ، وعدم حماية طعامهم وشرابهم منه ، كلا , فالإسلام دين النظافة ودين الوقاية ، وقد جاء الإسلام بالطب الوقائي كما جاء بالطب العلاجي ، وسبق إلى كثير من المكتشفات في هذا الجانب لم يُتوصل إليها إلا في العصور الحديثة ، ثم ماذا يقول هؤلاء بعد أن جاء العلم بتأييد هذه الأحاديث من الناحية الطبية ، فكشف عما ينطوي عليه من أسرار , اعتبرها المنصفون والعقلاء , من معجزات النبي  .
  وأخيراً وبعد هذا التطواف لعل القارئ الكريم قد ازداد يقيناً بصحة هذا الحديث رواية ودراية ، واطمأن إلى أن الإذعان والقبول لما صح عن الرسول  هو اللائق بالمؤمن ، وأنه في كل يوم تتقدم فيه العلوم والمعارف البشرية يظهر الله من الآيات النفسية والكونية ما يدل على أن الكتاب حق من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، وأن الرسول  لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وصدق الله حيث يقول : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } فصلت : 53 .
         

الحديث الرابع والثلاثون
ألبان وأبوال الإبل
 عن أنس  قال  :
  " أن ناساً اجتووا في المدينة , فأمرهم النبي  أن يلحقوا براعيه , يعني الإبل فيشربوا من ألبانها وأبوالها , فلحقوا براعيه فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صلحت أبدانهم , فقتلوا الراعي , وساقوا الإبل , فبلغ النبي  فبعث في طلبهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم , وسمر أعينهم " .  226
   الشبهة : قالوا : كيف يرخص النبي  لهؤلاء أن يشربوا أبوال الإبل ؟!
   الجواب : العجب أن الذي يتكلم على نصح الرسول  للأعرابيين بشرب ألبان الإبل وأبوالها , لا يتكلم على أن الأعرابيين تم شفائهم فعلاً بهذه الألبان والأبوال , ولم يبدوا اعتراضاً لهذا الأمر .
  ثم أن الطب شاهد بصحة هذا الحديث , وليس في الحديث إلزام للإنسان بشرب ألبان الابل وأبوالها , لأن الإنسان لا يؤمر بأكل ما تعافه نفسه , ولا بشرب ما تعافه نفسه , كما ثبت عن النبي  أنه أباح أكل الضب ولم يأكله ، وقال : " لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه " , وكما سبق بيانه في الحديث
السابق ، حديث الذباب .
  وإليك الآن تجربة علمية أثبتت إمكانية علاج مرض الإستسقاء ـ مرض يصيب البطن ـ بالافراز البولي للإبل :
  دراسة علمية تجريبية غير مسبوقة , أجرتها كلية المختبرات الطبية بجامعة الجزيرة بالسودان عن استخدامات قبيلة " البطانة " فى شرق السودان ( بول الإبل ) فى علاج بعض الأمراض , حيث أنهم يستخدمونه شراباً لعلاج مرض ( الإستسقاء ) والحميات والجروح , وقد كشف البروفسور أحمد عبد الله محمدانى تفاصيل تلك الدراسة العلمية التطبيقية المذهلة داخل ندوة جامعة الجزيرة , حيث ذكر أن الدراسة استمرت 15 يوماً حيث اختير 25 مريضاً مصابين بمرض الاستسقاء المعروف , وكانت بطونهم منتفخة بشكل كبير قبل بداية التجربة العلاجية , وبدأت التجربة بإعطاء كل مريض يومياً جرعة محسوبة من ( بول الإبل ) مخلوطاً بلبن الإبل حتى يكون مستساغاً وبعد 15 يوماً من بداية التجربة أصابنا الذهول من النتيجة , اذ انخفضت بطونهم وعادت لوضعها الطبيعى , وشفى جميع أفراد العينة من الاستسقاء .
  وتصادف وجود بروفسور إنجليزى أصابه الذهول أيضاً وأشاد بالتجربة العلاجية .
  وقال البروفسور أحمد : أجرينا قبل الدراسة تشخيصاً لكبد المرضى بالموجات الصوتية فاكتشفنا ان كبد 15 من الـ25 مريضا يحتوى ( شمعاً  ) وبعضهم كان مصاباً بتليف فى الكبد بسبب مرض البلهارسيا , وجميعهم استجابوا للعلاج بـ ( بول الإبل ) وبعض أفراد العينة استمروا برغبتهم فى شرب جرعات بول الإبل يومياً لمدة شهرين آخرين , وبعد نهاية تلك الفترة أثبت التشخيص شفاءهم من تليف الكبد وسط دهشتنا جميعا .
  ويقول البروفسور أحمد عبد الله ـ عميد كلية المختبرات الطبية ـ عن تجربة علاجية أخرى : وهذه المرة عن طريق لبن الإبل , وهى تجربة قامت بها طالبة ماجستير بجامعة الجزيرة لمعرفة أثر لبن الإبل على معدل السكر فى الدم , فاختارت عددا من المتبرعين المصابين بمرض السكر لإجراء التجربة العلمية , واستغرقت الدراسة سنة كاملة حيث قسمت المتبرعين لفئتين : كانت تقدم للفئة الأولى جرعة من لبن الإبل بمعدل نصف لتر يومياً , شراب على  الريق , وحجبته عن الفئة الثانية , وجاءت النتيجة مذهلة بكل المقاييس إذ أن نسبة السكر فى الدم انخفضت بدرجة ملحوظة وسط الفئة الأولى ممن شربوا لبن الإبل عكس الفئة الثانية , وهكذا عكست التجربة العلمية لطالبة الماجستير مدى تأثير لبن الإبل فى تخفيض أو علاج نسبة السكر فى الدم .
  وأوضح الدكتور أحمد المكونات الموجودة فى بول الإبل حيث قال : انه يحتوى على كمية كبيرة من البوتاسيوم يمكن أن تملأ جرادل , ويحتوى أيضاً على زلال بالجرامات ومغنسيوم , إذ أن الإبل لا تشرب فى فصل الصيف سوى 4 مرات فقط , ومرة واحدة فى الشتاء , وهذا يجعلها تحتفظ بالماء فى جسمها , فالصوديوم يجعلها لا تدر البول كثيراً لأنه يرجع الماء إلى الجسم ومعروف أن مرض الإستسقاء إما نقص فى الزلال , أو فى البوتاسيوم , وبول الإبل غنى بالإثنين معاً  .


الحديث الخامس والثلاثون
في أن التكالب على الدنيا يورث الذل
  عن أبي أمامة الباهلي  :
   قال ورأى سكة و شيئاً من آلة الحرث فقال : سمعت رسول الله  يقول :   " لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل " .  227
   الشبهة : قالوا : من المعروف أن آلات الحرث تستخدم في زراعة الأرض ، فهل في هذا الحديث دعوة إلي ترك استثمار الأرض ؟! .
   الجواب : قال الإمام الألباني ـ رحمه الله ـ بعد أن ذكر أحاديث تحض على استثمار الأرض :
  " ذكرت في المقال السابق بعض الأحاديث الواردة في الحض على استثمار الأرض ، مما لا يدع مجالاً للشك في أن الإسلام شرع ذلك للمسلمين , و رغبهم فيه أيما ترغيب .
  واليوم نورد بعض الأحاديث التي قد يتبادر لبعض الأذهان الضعيفة أو القلوب المريضة أنها معارضة للأحاديث المتقدمة ، و هي في الحقيقة غير منافية لها ، إذا ما أحسن فهمها ، و خلت النفس من اتباع هواها !
  وقد وفق العلماء بين هذا الحديث و الأحاديث المتقدمة في المقال المشار إليه بوجهين اثنين :
  الأول : أن المراد بالذل : ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم بها الولاة من خراج أو عشر ، فمن أدخل نفسه في ذلك فقد عرضها للذل .
  قال المناوي :
  " و ليس هذا ذماً للزراعة , فإنها محمودة مثاب عليها لكثرة أكل العوافي منها ، إذ لا تلازم بين ذل الدنيا و حرمان ثواب البعض " .
  و لهذا قال ابن التين :
  " هذا من أخباره  بالمغيبات ، لأن المُشاهد الآن , أن أكثر الظلم إنما هو على أهل الحرث " .
  الثاني : أنه محمول على من شغله الحرث و الزرع عن القيام بالواجبات كالحرب و نحوه ، و إلى هذا ذهب البخاري حيث ترجم للحديث بقوله : " باب ما يحذر من عواقب الإشتغال بآلة الزرع ، أو مجاوزة الحد الذي أمر به " .
  فإن من المعلوم أن الغلو في السعي وراء الكسب يلهي صاحبه عن الواجب و يحمله على التكالب على الدنيا , و الإخلاد إلى الأرض , والإعراض عن الجهاد ، كما هو مشاهد من الكثيرين من الأغنياء .
  و يؤيد هذا الوجه قوله  : " إذا تبايعتم بالعينة ، و أخذتم أذناب البقر , و رضيتم بالزرع , و تركتم الجهاد , سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " .   228


الحديث السادس والثلاثون
أمر النبي  بقتل الكلاب
 عن عبد الله  قال :
  " كان رسول الله  يأمر بقتل الكلاب , فنبعث في المدينة وأطرافها فلا ندع كلبا إلا قتلناه , حتى إنا لنقتل كلب المرية من أهل البادية يتبعها " .  229
   الشبهة : وماذا فعلت الكلاب حتى يؤمر بقتلها ، أليست أمة من الأمم ؟!
   الجواب : نقول : أن قراءة هذا الحديث فقط دون بقية أحاديث نبوية أخرى يعطي انطباعاً أن النبي  أمر بقتل الكلاب لمجرد القتل , و هي لا ذنب لها , وهذا محال .
  لذلك فنحن لا يمكن أن نستدل على موقف الإسلام في مجال من المجالات  من آية واحدة , أو من حديث واحد فقط دون باقي الأحاديث ، ومن يفعل ذلك يكون كمن يقول بجزء من الآية كقوله تعالى : { فويل للمصلين } , ثم يقول : إن الله يتوعد المصلين بجهنم ! .
  لكن دعونا نستعرض الأحاديث التى وردت في هذه المسألة حتى يتبين لنا الأمر .
 عن أبي هريرة  قال :
  قال رسول الله  : " من أمسك كلباً , فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط   إلا كلب حرث أو ماشية " .  230
 عن ابن عمر  قال :
  " أن رسول الله  أمر بقتل الكلاب , إلا كلب صيد , أو كلب غنم  , أو ماشية " , فقيل لابن عمر : إن أبا هريرة يقول : " أو كلب زرع " .
  فقال ابن عمر : إن لأبى هريرة زرعاً .  231
  يتبين لنا من هاذين الحديثين ـ و هم بالعشرات في كتب الأحاديث ـ أن كلب الصيد , أو كلب الغنم ، أو كلب الماشية لا يقتل .
  ولكن حقيقة الأمر أن الكلاب التي أمر النبي  بقتلها هي التي ليست كلاباً على الحقيقة , ولكنها شياطين تشكلت في  صورة كلاب !
  فعن جابر بن عبد الله  قال :
  " أمرنا رسول الله  بقتل الكلاب , حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله , ثم نهى النبى  عن قتلها وقال : " عليكم بالأسود البهيم ذى النقطتين فإنه شيطان " .  232
  إذن الشياطين كانت لها القدرة على التشكل , و أخذ صورة كلاب , وليس أي كلب , لذا أعطى النبي  وصفاً للكلب الذي أخذ الشيطان صفته , وهو كما
النبي  : " الأسود البهيم ذي النقطتين " .
  إذن في حقيقة الأمر النبي  أمر بقتل الشياطين , التي تأخد صفة هذا النوع من الكلاب , و لتمييز الكلاب الحقيقية عن الشياطين المتحولة ذكر لنا النبي  العلامة : " الأسود البهيم ذي النقطتين " .
  قال أبو محمد بن قتيبة  :
  " ونحن نقول : إن كل جنس خلقه الله تعالى من الحيوان أمة كالكلاب والأسد والبقر والغنم والنمل والجراد وما أشبه , هذا كما أن الناس أمة , وكذلك الجن أمة , يقول الله تعالى : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم } , يريد أنها مثلنا في طلب الغذاء والعشاء وابتغاء الرزق , وتوقي المهالك , وكذلك الجن قد خاطبهم الله تعالى كما خاطبنا إذ يقول : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم . . } , ولو أمر النبي  بقتل الكلاب ـ كما فهم الكثير ـ  على كل حال لأفنى أمة وقطع أثرها , وفي الكلاب منافع للناس في حراسة منازلهم , وحفظ نعمهم , وحرثهم مع الإرتفاق بصيدها , فإن كثيراً من الأعراب ونازلة القفر لا غذاء لهم ولا معاش إلا بها والله تعالى يقول : { فكلوا مما أمسكن عليكم } , وفي ذلك دليل على أنه تعالى خلقها لمنافعنا .
  وليس لشيء من الحيوان مثل محاماته على أهله , وذبه عنهم , مع الإساءة إليه والطرد والضرب , والأخبار عن الكلاب في هذا كثيرة صحاح .
  وإنما أمر النبي   بقتل الأسود منها وقال : " هو شيطان " لأن الأسود البهيم منها أضرها , والكلب إليه أسرع منه إلى جمعها , وهو مع هذا أقلها نفعاً , وأسوؤها حراسة , وأبعدها من الصيد , وأكثرها نعاساً .
  وقال : " هو شيطان " يريد أنه أخبثها , كما يقال : فلان شيطان , وما هو إلا شيطان مارد , وما هو إلا أسد عاد , وما هو إلا ذئب عاد , يراد : أنه شبيه بذلك , وإن كانت الكلاب من الجن , أو كانت ممسوخاً من الجن فإنما أراد أن الأسود منها شيطانهاً فاقتلوه لضره والشيطان " . 233
  وخلاصة القول : نحن كمسلمين نفخر أن شريعتنا لا تأمر فقط بمعاداة الشيطان , واتخاده عدواً , بل أيضاً متى سنحت الفرصة أن نبيد الشياطين عن و جه الأرض , وهذا فخر لهذا الدين .
         

الحديث السابع والثلاثون
بول الشيطان
 عن عبد الله  قال :
  ذكر عند النبي  رجل نام ليلة حتى أصبح قال : " ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه " , أو قال : " في أذنه " .  234
  الشبهة : قالوا : وهل الشيطان يبول ؟!
   الجواب : قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ :
  " اختلفوا في معناه , فقال بن قتيبة معناه : أفسده , يقال : بال في كذا إذا أفسده , وقال المهلب والطحاوي وآخرون : هو استعارة وإشارة إلى إنقياده للشيطان , وتحكمه فيه , وعقده على قافية رأسه : عليك ليل طويل , وإذلاله  له .
  وقيل : معناه استخف به واحتقره واستعلى عليه , يقال لمن استخف بإنسان وخدعه : بال في أذنه , وأصل ذلك في دابة تفعل ذلك بالأسد إذلالاً له .
  وقال الحربي : معناه ظهر عليه وسخر منه .
  قال القاضي عياض : ولا يبعد أن يكون على ظاهره , قال : وخص الأذن لأنها حاسة الانتباه " .   235
  وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ :
  " اختلف في بول الشيطان , فقيل : هو على حقيقته , قال القرطبي وغيره : لا مانع من ذلك إذ لا إحالة فيه لأنه ثبت أن الشيطان يأكل ويشرب وينكح , فلا مانع من أن يبول .
  وقيل : هو كناية عن سد الشيطان إذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر , وقيل : معناه أن الشيطان ملأ سمعه بالأباطيل , فحجب سمعه عن الذكر , وقيل : هو كناية عن ازدراء الشيطان به , وقيل : معناه أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف ـ الحمام ـ المعد للبول , إذ من عادة المستخف بالشيء أن يبول عليه , وقيل : هو مثل مضروب للغافل عن القيام بثقل النوم كمن وقع البول في إذنه فثقل إذنه وفسد حسه , والعرب تكني عن الفساد بالبول " .    236
         

الحديث الثامن والثلاثون
سجود الشمس تحت العرش
 عن أبي ذر  قال :
  كنت مع النبي  في المسجد عند غروب الشمس فقال : " يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس ؟ " , قلت : الله ورسوله أعلم , قال : " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله تعالى : { والشمس تجري لمستقر لها ذلك لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } " .  237
   الشبهة : قالوا : كيف تسجد الشمس تحت العرش ؟
   الجواب : قال العلماء : أن سجود الشمس صحيح ممكن , وقد تأوله قوم بأن سجودها هو ما هي عليه من التسخير الدائم ، وذهابها هو غروبها .
  وقال بعض العلماء : المعنى بأن المراد من سجودها هو سجود من هو موكل بها من الملائكة , فيكون الاستئذان أسند إليها مجازاً , والمراد من هو موكل بها من الملائكة .
  قال ابن بطال ـ رحمه الله ـ  :
  " استئذان الشمس معناه : أن الله يخلق فيها حياة يوجد القول عندها , لأن الله قادر على إحياء الجماد والأموات "  .
  قال أبو بكر الجزائري :  
  " وكونها ـ أي الشمس ـ تحت العرش فلا غرابة فيه , فالكون كله تحت العرش , وكونها تستأذن فيؤذن لها لا غرابة فيه , إذا كانت النملة تدبر أمر حياتها بإذن ربها , وتقول وتفكر وتعمل , فالشمس أحرى بذلك , وأنها تنطق بنطقها الخاص وتستأذن ويؤذن لها " .  238
  وسبحان الله القائل : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّه يَسْجُد لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَات وَمَنْ فِي الْأَرْض وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَالنُّجُوم وَالْجِبَال وَالشَّجَر وَالدَّوَابّ وَكَثِير مِنْ النَّاس} , ومعنى سجود هذه الأشياء أي : انقيادها , وما يرى فيها من أثر الصنعة , فالكل يسجد لله سبحانه أي : يخضع له بِما يُراد منه.
  والسجود هو : الخضوع في اللغة , لذلك قال بعض العلماء : إن المراد بسجودها تحت العرش : خضوعها لله , وانقيادها للنظام الذي وضعه لها .
  وهذا أمر يجري على كل كائن في الوجود مهما تصور الإنسان عظمته وفتن بقوته وأثره ، فهو تحت حكم الله يتصرف فيه كيف يشاء ، وكل حركة في الكون فهي بأمره سبحانه .
وقد يتوهم البعض من معنى السجود : توافر الأعضاء والأطراف التي في بني آدم لتحقيق السجود بالنسبة للشمس , ولا يلزم هذا كما هو معلوم .
  فالمعنى الاصطلاحي الذي يستعمله الفقهاء في شرحهم لكيفية السجود في الصلاة بالمعنى اللغوي هو أوسع دلالة , وأكثر معنى مما دل عليه الإصطلاح.  
  ومن معاني السجود في اللغة : الخضوع , كما ذكره ابن منظور وغيره وعليه يُحمل ما في هذا الحديث , وهو المقصود في قوله تعالى في آية الحج : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } الحج : 18 .
  قال ابن كثير ـ رحمه الله ـ :
  " يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له , فإنه يسجد عظمته كل شيء طوعاً وكرهاً وسجود كل شيء مما يختص به " .   239
  فكما أنه يلزم من سجودنا التوقف عن الحركة لبرهة من الزمن وهو الإطمئنان الذي هو ركن في الصلاة , فإنه لا يلزم بالمقابل أن يتوقف جريان الشمس لتحقيق صفة السجود , لأننا رأينا دلالة عموم لفظ السجود من آيتي الحج والنحل , ومن شواهد لغة العرب على أن السجود هو مطلق الخضوع للخالق سبحانه , ومن المعلوم أن السجود عبادة , والله قد تعبد مختلف مخلوقاته بما يناسب هيئاتها وصفاتها وطبائعها , فكان الإنحناء والنزول للآدميين , وكان غير ذلك من كيفيات السجود لسائر الكائنات والمخلوقات , مع اشتراكهما في عموم معنى السجود الذي هو الخضوع لله تعالى طوعاً أو كرهاً .
هذا وبقي في الأحاديث عنه  فائدتان لطيفتان تزيلان لبساَ كثيراً :
  المسألة الأولى : في قوله  : " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش " , عند البخاري وغيره , ولم يقل  أنها : " تغرب تحت العرش "  أو  " حتى تغرب تحت العرش " , وهذا فهم توهمه بعض الناس الذين أشكل عليهم هذا الحديث وهو فهم مردود , لأن ألفاظ الحديث ترده , فقوله : " تذهب " , دلالة على الجريان لا دلالة على مكان الغروب , لأن الشمس لا تغرب في موقع حسي معين وإنما تغرب في جهة معينة , وهي ما اصطلح عليه الناس باسم الغرب , والغروب في اللغة : التواري والذهاب كما ذكره ابن منظور وغيره , يقال : غرب الشيء أي : توارى وذهب , وتقول العرب : أغرب فلان أي : أبعد وذهب بعيداً عن المقصود .
  ولكن لو قال قائل : هل تنتفي صفة السجود عن الشمس إذا كانت لا تسجد إلا تحت العرش فلا تكون خاضعة إلا عند سجودها تحت العرش وفي غير ذلك من الأحايين لا تكون ؟
  والجواب : أن الشمس كما قدمنا لها سجدتان : سجود عام مستديم وهو سجودها المذكور في آية النحل والحج مع سائر المخلوقات , وسجود خاص يتحقق عند محاذاتها لباطن العرش , فتكون ساجدة تحته وهو المذكور في الحديث , وفي كلا الحالتين لا يلزم من سجودها أن يشابه سجود الآدميين لمجرد الاشتراك في لفظ الفعل الدال عليه .
  ومن أمثلة ذلك من واقعنا أن مشي الحيوان ليس كمشي الآدمي , وسباحة السمك والحوت ليست كسباحة الإنسان , وهكذا مع أنهم يشتركون في مسمى الفعل وهما المشي والسباحة هذه مسألة .
  أما المسألة الثانية :  ففي أحد روايات الحديث قال النبي  : " فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا "   240, والشاهد منها قوله  : " لا يستنكر الناس منها شيئاً " , وكأن في هذا دلالة ضمنية على علمه  بأن هناك من الناس من قد يستشكل معنى الحديث , فيتوهم أن الشمس تقف أو تتباطأ للسجود فينكر الناس ذلك ويرهبونه , إلا أنه  أشار في الحديث إلى جريان الشمس على عادتها مع أنها تسجد , ولكنه سجود غير سجود الآدميين , ولذلك تصبح طالعة من مطلعها تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً .
  وواضح من كلامه  مفهوم المخالفة الدال على عدم استنكار الناس رغم سجود الشمس واستئذانها , وكما قدمنا فإن سجود الشمس لا يستلزم وقوفها وهو اللبس الذي أزاله  بقوله : " فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً " , كما أن العقل يدل على ذلك , إذ إن فرق المسافة التي يقطعها الضوء القادم من الشمس إلى الأرض يبلغ حوالي ثمان دقائق وهذا يعني أنه لو حدث خطب على الشمس أو فيها فإننا لا نراه إلا بعد ثمان دقائق من حصوله , وعليه فلا يمنع أن تكون الشمس ساجدة في بعض هذا الوقت ولو بأجزاء من الثانية لله تعالى تحت عرشه , ونحن لا نعلم عن ذلك لغفلتنا وانشغالنا بضيعات الدنيا .
  ولهذا يقول الله تعالى :{ وكم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون },  وللإعراض صور متعددة , منها الغفلة واللهو عن تدبر الآيات كونية وشرعية , ولذلك فإن البعض ممن ساء فهمهم لبعض الآيات والأحاديث إنما أوتوا من قبل أنفسهم , بعدم إمعان النظر في آيات الله الكونية وبهجرهم لتدبر كتاب الله , وإعراضهم عن التفقه في سنة رسول الله  مع عزوفهم عن الاستزادة من العلوم الدنيوية النافعة في هذا الباب . والله أعلم .
         
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 6:20 pm

الحديث التاسع والثلاثون
الشؤم في ثلاث
 عبد الله بن عمر  قال :
  سمعت النبي  يقول : " إنما الشؤم في ثلاثة : في الفرس  , والمرأة والدار " .   241
   الشبهة : قالوا : كيف ينفي النبي  الشؤم في حديث ويصفه بأنه شرك , ثم يثبته في هذا الحديث ؟!
   الجواب : قال ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ :
  قال ابن قتيبة : " ووجهه أن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون ـ يتشائمون ـ , فنهاهم النبي  وأعلمهم أن لا طيرة , فلما أبوا أن ينتهوا بقيت الطيرة في هذه الأشياء الثلاثة .
  قلت ـ ابن حجر ـ : فمشى ابن قتيبة على ظاهره , ويلزم على قوله أن من تشاءم بشيء منها نزل به ما يكره .
  قال القرطبي ـ رحمه الله ـ : " ولا يُظن به أنه يحمله على ما كانت الجاهلية تعتقده , بناء على أن ذلك يضر وينفع بذاته , فإن ذلك خطأ , وإنما عنى :  أن هذه الأشياء هي أكثر ما يتطير به الناس ، فمن وقع في نفسه شئ , أبيح له أن يتركه ويستبدل به غيره " .
  وقال ابن العربي  : " معناه : إن كان خلق الله الشؤم في شيء مما جرى من بعض العادة , فإنما يخلقه في هذه الأشياء " .
  قال المازري : " مجمل هذه الرواية إن يكن الشؤم حقاً فهذه الثلاث أحق به  بمعنى أن النفوس يقع فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها " .
  وقال الخطابي : " هو استثناء من غير الجنس , ومعناه إبطال مذهب الجاهلية في التطير , فكأنه قال : أن كانت لأحدكم دار يكره سكناها , أو امرأة يكره صحبتها , أو فرس يكره سيره فليفارقه , قال : وقيل أن شؤم الدار ضيقها وسوء جوارها , وشؤم المرأة أن لا تلد , وشؤم الفرس أن لا يغزى عليه " .
  وقيل : يحمل الشؤم على قلة الموافقة وسوء الطباع , وهو كحديث سعد بن أبي وقاص رفعه : "  من سعادة المرء المرأة الصالحة , والمسكن الصالح والمركب الهنيء , ومن شقاوة المرء المرأة السوء , والمسكن السوء , والمركب السوء " , وهذا يختص ببعض أنواع الأجناس المذكورة دون بعض وبه صرح ابن عبد البر فقال : يكون لقوم دون قوم وذلك كله بقدر الله " .  242
  وقال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ :
  " واختلف العلماء فى هذا الحديث , فقال مالك وطائفة : هو على ظاهره وأن الدار قد يجعل الله تعالى سكناها سبباً للضرر أو الهلاك , وكذا اتخاذ المرأة المعينة , أو الفرس , أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى
ومعناه : قد يحصل الشؤم فى هذه الثلاثة " .    243
  قلت ـ المصنف ـ : ولعل الأصوب في ما يراد بالشؤم في هذا الحديث هو : أنه إن كان الشؤم حق , فإن هذه الثلاث أحق بها , ذلك لأن في بعض روايات الحديث ذكر النبي  هذه المعنى ، فعن أنس  قال : قال رسول الله  : " لا طيرة , والطيرة على من تطير , وإن تك في شيء ففي الدار , والفرس والمرأة " .    244
 قال ابن عبد البر :
  " أصل التطير واشتقاقه عند أهل العلم باللغة والسير والأخبار هو مأخوذ من زجر الطير ومروره سانحاً , أو بارحاً منه اشتقوا التطير , ثم استعملوا ذلك في كل شيء من الحيوان وغير الحيوان , فتطيروا من الأعور والأعضب والأبتر , وكذلك إذا رأوا الغراب أو غيره من الطير يتفلى أو ينتف .
  ولإيمان العرب بالطيرة عقدوا التمائم , واستعملوا القداح بالآمر والناهي والمتربص , وكانوا يشتقون الأسماء الكريهة مما يكرهون , وربما قلبوا ذلك إلى الفأل الحسن فراراً من الطيرة , ولذلك سموا اللديغ سليماً , والقفر مفازة وكنوا الأعمى أبا البصير . . .الخ .
  ومثل هذا كثير عنهم إذا غلب عليهم الإشفاق تطيروا وتشاءموا , وإذا غلب عليهم الرجاء والسرور تفاءلوا , وذلك مستعمل عندهم فيما يرون من الأشخاص , ويسمعون من الكلام , فقال لهم رسول الله  : " لا طيرة ولا شؤم " , فعرفهم أن ذلك إنما هو شيء من طريق الإتفاق ليرفع عن المتوقع ما يتوقعه من ذلك كله , ويُعلمه أن ذلك ليس يناله منه إلا ما كتب له .
فإن قال قائل : قد قال رسول الله  : " لا طيرة , والطيرة على من تطير , وإن تكن في شيء ففي المرأة والدار والفرس " ,  وقال : هذا يوجب أن تكون الطيرة في الدار والمرأة والفرس لمن تطير .
  قيل له وبالله التوفيق : لو كان كما ظننت لكان هذا الحديث ينفي بعضه بعضاً لأن قوله " لا طيرة " نفي لها , وقوله " والطيرة على من تطير " , إيجاب لها وهذا محال أن يظن بالنبي  مثل هذا من النفي والإثبات في شيء واحد ووقت واحد , ولكن المعنى في ذلك نفي الطيرة بقوله " لا طيرة " , وأما قوله " الطيرة على من تطير " فمعناه : إثم الطيرة على من تطير بعد علمه بنهي رسول الله  عن الطيرة " .   245
         

الحديث الأربعون
رضاعة الكبير
  عن عائشة - رضى الله عنها ـ قالت :
  " أن سالماً مولى أبى حذيفة كان مع أبى حذيفة , وأهله فى بيتهم , فأتت ـ تعنى ابنة سهيل ـ النبى  فقالت : إن فى نفس أبى حذيفة من ذلك شيئاً , فقال لها النبى  : " أرضعيه تحرمى عليه ، ويذهب الذى فى نفس أبى حذيفة " فرجعت ، فقالت : إنى قد أرضعته ، فذهب الذى فى نفس أبى حذيفة " .246  
   الشبهة : هذا الحديث طعن فيه بعض الرافضة ، وأدعياء العلم ، وزعموا أن الحديث يتعارض مع القرآن الكريم والعقل .
  فقالوا : هل يجوز لعاقل يؤمن بالله واليوم الآخر ، بعد أن قرأ قوله تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } النور: 30 , أن يصدق هذا الحديث أو أن يعيره بالاً ؟! ولكن رواية هذا الحديث فى المسانيد معنعناً مطولاً , دعت كثيراً من الفقهاء إلى تصديقه وبحثه ، والأخذ منه بجواز إرضاع الكبير !
  وقالوا أيضاً : إن هذا الحديث وأمثاله مما دسه الدساسون الأفاكون ـ يقصد الإمام البخاري ـ ، ليذهب ببهاء ذلك الدين القويم ! وحاشا أن يقول الرسول  ما لم يقله الله عز وجل ، بل ويتناقض كل التناقض مع ما ورد فى الكتاب المجيد , الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه , ولا من خلفه , تنزيل من حكيم حميد . 247  
   والجواب : إن هذا الحديث الذى طعن فيه بعض دعاة الفتنة وأدعياء العلم ، مما تلقته الأمة بالقبول رواية ودراية .
  أما الرواية فقد بلغت طرق هذا الحديث نصاب التواتر , كما قال الإمام الشوكانى .  248
  وأما الدراية فقد تلقى الحديث بالقبول الجمهور من الصحابة والتابعين , فمن بعدهم من علماء المسلمين إلى يومنا هذا .
  تلقوه بالقبول على أنه واقعة عين بسالم  لا تتعداه إلى غيره ، ولا تصلح للاحتجاج بها ، ويدل على ذلك ما جاء فى بعض الروايات عند مسلم عن ابن أبى مليكة أنه سمع هذا الحديث من القاسم بن محمد بن أبى بكر عن عائشة -رضى الله عنها- قال ابن أبى مليكة : فمكثت سنة أو قريباً منها لا أحدث به وهبته , ثم لقيت القاسم فقلت له : لقد حدثتنى حديثاً ما حدثته بعد .
  قال : فما هو ؟ فأخبرته , قال : فحدثه عنى ، أن عائشة أخبرتنيه .  249
  وفى رواية للنسائى : فقال القاسم : حدث به ولا تَهابه .  250
  قال الحافظ ابن عبد البر :
  " هذا يدل على أنه حديث ترك قديماً ولم يعمل به ، ولا تلقاه الجمهور بالقبول على عمومه ، بل تلقوه على أنه خصوص " .  251
  وبذلك صرحت بعض الروايات ، ففى صحيح مسلم عن أم سلمة زوج النبى  كانت تقول : " أبى سائر أزواج النبى  أن يدخلن عليهن أحداً بتلك الرضاعة , وقلن لعائشة : والله ! ما نرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله  لسالم خاصة , فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة  , ولا رائينا " .  252
  إن قصة رضاعة سالم  قضية عين لم تأت فى غيره ، واحتفت بها قرينة التبنى ، وصفات لا توجد فى غيره ، فلا يقاس عليه .  253
  فأصل قصة سالم : ما وقع له من التبنى الذى أدى إلى اختلاطه بسهلة بنت سهيل امرأة أبى حذيفة ، وكانت تراه ابناً لها ، ويدخل عليها فلا تحتشم منه ، ويراها وهى منكشف بعضها ، فلما نزل الإحتجاب ، ومنعوا من التبنى ، شق ذلك على أبى حذيفة وسهلة ، فوقع الترخيص لهما فى ذلك ، لرفع ما حصل لهما من المشقة .  254
  وهذا ما جاء فى رواية الإمامين أبو داود ومالك .
  فعن عائشة زوج النبى  وأم سلمة - رضى الله عنهما - أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، كان تبنى سالماً ، وأنكحه ابنه أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من الأنصار ، كما تبنى رسول الله  زيداً ، وكان من تبنى رجلاً فى الجاهلية دعاه الناس إليه وورث ميراثه  حتى أنزل الله عز وجل : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءَابَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }الأحزاب
  فردوا إلى آبائهم ، فمن لم يعلم له أب كان مولى وأخا فى الدين ، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشى ثم العامرى ، وهى امرأة أبى حذيفة . فقالت : يا رسول الله ، إنا كنا نرى سالماً ولداً ، وكان يأوى معى ومع أبى حذيفة فى بيت واحد ، ويرانى فضلاً ، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت  فكيف ترى فيه ؟
  فقال لها النبى  : " أرضعيه " , فأرضعته خمس رضعات ، فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة .
  فبذلك كانت عائشة - رضى الله عنها - تأمر بنات أخواتها ، وبنات إخوتها ، أن يرضعن من أحبت عائشة أن يراها ويدخل عليها ، وإن كان كبيراً ، خمس رضعات ، ثم يدخل عليها .
  وأبت أم سلمة وسائر أزواج النبى  أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً من الناس حتى يرضع فى المهد  ، وقلن لعائشة : والله ما ندرى  ,  لعلها كانت
رخصة من النبى  لسالم دون الناس " .  255
  قال الإمام الزرقانى  :
  قول سهلة : ( يا رسول الله إنا كنا نرى ) ، أى نعتقد ( سالماً ولداً ) بالتبنى (وكان يدخل على وأنا فُضل ) بضم الفاء والضاد المعجمة , قال ابن وهب : مكشوفة الرأس والصدر ، وقيل : على ثوب واحد لا إزار تحته ، وقيل متوشحة بثوب على عاتقها ، خالفت بين طرفيه .  256
  قال ابن عبد البر :
  " أصحها الثانى لأن كشف الحرة الصدر لا يجوز عند محرم ولا غيره " .257  
  وقال الحافظ ابن حجر :
  " فعلى هذا فمعنى الحديث أنه كان يدخل عليها وهى منكشف بعضها " .  258
  وفى رواية أحمد قالت : " يدخل على كيف شاء لا نحتشم منه "  259 ، وقولها : " ليس لنا إلا بيت واحد " أى : فلا يمكن الإحتجاب منه ، وقد أنزل الله عز وجل فيه ما علمت ـ أى من الاحتجاب ، ومنع التبنى ـ ، فماذا ترى فى شأنه ؟
  ولمسلم عن القاسم عن عائشة فقالت : " إنى أرى فى وجه أبى حذيفة من دخول سالم وهو حليفه " , وله من وجه آخر عن القاسم عنها فقالت : " إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال ، وعقل ما عقلوه ، وإنه يدخل علينا ، وإنى أظن أن فى نفس أبى حذيفة من ذلك شيئاً " .
  ولا منافاة , فإن سهلة ذكرت السؤالين للنبى  ، واقتصر كل راو على واحد , فقال لها رسول الله  : " أرضعيه خمس رضعات " .
  قال ابن عبد البر :
  " وفى رواية : ( عشر رضعات ) ، والصواب رواية ( خمس رضعات فيحرم بلبنها ) , زاد فى مسلم فقالت : كيف أرضعه وهو رجل كبير؟
  فتبسم  وقال : " قد علمت أنه رجل كبير " ، وكان قد شهد بدراً .
  وفى لفظ له : " أرضعيه تحرمى عليه ، ويذهب الذى فى نفس أبى حذيفة "  فرجعت إليه فقالت : إنى قد أرضعته فذهب الذى فى نفس أبى حذيفة .
  قال ابن عبد البر :
  " صفة رضاع الكبير أن يحلب له اللبن ويسقاه ، فأما أن تلقمه المرأة ثديها ، فلا ينبغى عند أحد من العلماء " .
  وقال عياض :
  " ولعل سهلة حلبت لبنها فشربه من غير أن يمس ثديها ، ولا التقت بشرتاهما ، إذ لا يجوز رؤية الثدى ، ولامسه ببعض الأعضاء " .
  وقال الإمام النووى :
  " وهو حسن ، ويحتمل أنه عفى عن مسه للحاجة كما خص بالرضاعة مع الكبر "    260
  وأيده بعضهم بأن ظاهر الحديث أنه رضع من ثديها لأنه تبسم وقال :  " قد علمت أنه رجل كبير " ، ولم يأمرها بالحلب ، وهو موضع بيان ، ومطلق الرضاع يقتضى مص الثدى ، فكأنه أباح لها ذلك لما تقرر فى نفسهما ، أنه أبنها ، وهى أمه فهو خاص بهما لهذا المعنى " .  261
  وكشف العورة فى هذه الحالة جائز للضرورة ، فلا معارضة بين الحديث وبين قوله تعالى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ }النور : 30, كما زعم بعض أدعياء العلم .
  قال الإمام الزرقانى :
  " وكأن القائلين بأن ظاهر الحديث أنه رضع من ثديها ، لم يقفوا فى ذلك على شئ , فقد روى ابن سعد عن الواقدى عن محمد بن عبد الله ابن أخى الزهرى عن أبيه قال : " كانت سهلة تحلب فى إناء قدر رضعته ، فيشربه سالم فى كل يوم ، حتى مضت خمسة أيام ، فكان بعد ذلك يدخل عليها وهى حاسر ، رخصة من رسول الله  لسهلة " .  262
  وما استشكل من عدم تفريق عائشة - رضى الله عنها - بين رضاع الصغير  
والكبير مع روايتها لحديث : " فإنما الرضاعة من المجاعة "263  , مما يفيد أن رضاعة الكبير لا تحرم .
  فقد أجاب الحافظ ابن حجر على هذا الإشكال بقوله : " لعلها فهمت من قوله  " إنما الرضاعة من المجاعة " أنه يخص مقدار ما يسد الجوعة من اللبن ، فهو فى عدد الرضعات ، أعم من أن يكون المرتضع صغيراً أو كبيراً ، فلا يكون الحديث نصاً فى منع اعتبار رضاعة الكبير ، وحديث ابن عباس  " لا رضاع إلا ما كان فى الحولين "   264- مع تقدير ثبوته - ليس نصاً فى ذلك أيضاً  وحديث أم سلمة - رضى الله عنها - " لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء فى الثدى ، وكان قبل الفطام "  265 , يجوز أن يكون المراد منه أنه لا رضاع بعد الفطام ممنوع ، ثم لو وقع , رتب عليه حكم التحريم ، فما فى الأحاديث المذكورة ما يدفع هذا الإحتمال ، فلهذا عملت عائشة بذلك "   .266
  ومن هنا فلا عبرة بما زعمه بعض الرافضة من استنكاره رضاعة سالم  وهو كبير .
  لأن قصة سالم كانت فى أول الهجرة ، وكانت رضاعة الكبير وقتئذ مشروعة ثم نسخت ، وبذلك صرحت عائشة - رضى الله عنها - قالت : " كان فيما أنزل من القرآن  : عشر رضعات معلومات يحرمن ,  ثم نسخن بخمس ,
معلومات , فتوفى رسول الله  وهن فيما يقرأ من القرآن " .  267
  وفى رواية لابن ماجة ، وأحمد ، عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : " لقد نزلت آية الرجم ، ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كانت فى صحيفة تحت سريرى , فلما مات رسول الله  وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها " .  268
  أما الأحاديث الدالة على اعتبار الحولين فهى من رواية أحداث الصحابة , فدل على تأخرها .
  قال الحافظ ابن حجر :
  " وهو مستند ضعيف ، إذ لا يلزم من تأخر إسلام الراوى ، ولا صغره أن لا يكون ما رواه متقدماً ، وأيضاً ففى سياق قصة سالم ما يشعر بسبق الحكم باعتبار الحولين ، لقول امرأة أبى حذيفة فى بعض طرقه : " وكيف أرضعه وهو رجل كبير ؟ " , فهذا يشعر بأنها كانت تعرف أن الصغر معتبر فى الرضاع المحرم " .  269
  يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين :
  " وفى تعقيب ابن حجر نظر ، لأن قصة سالم كانت فى أول الهجرة ، بلا نقاش ، كما هو واضح من ترجمته ، ورواية اعتبار الحولين تؤكد تأخر الحكم عن قصة سالم ، وقول امرأة أبى حذيفة ، وإن أشعر بتقدم الحكم على سبيل الإحتمال ، لكنه لا يفيد تقدم الحكم .
  فقد يكون سؤالها عن الطريقة التى ترضعه بها ، أتحلب اللبن ؟ أم تلقمه ثديها ؟ , وقد يكون سؤالها تعجباً من الأمر بإرضاعه المنافى لما جبلت عليه البشرية من إرضاع الصغير دون الكبير .
  فالقول بنسخ رضاعة الكبير ، ومنها قصة سالم  ظاهر ومقبول ، لا يعارضه سوى موقف عائشة - رضى الله عنها - الذى انفردت به مع قلة من الفقهاء " .  270
  قال الإمام النووى :
  " وقول عائشة - رضى الله عنها - : " فتوفى رسول الله  وهن فيما يقرأ " معناه : أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله جداً ، حتى أنه  توفى وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ، ويجعلها قرآناً متلو ، لكونه لم يبلغه النسخ لقرب عهده ، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك ، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى .
  وفى الرواية ما يدل على وقوع النسخ فى القرآن , قال النووى :  " والنسخ ثلاثة أنواع :
  أحدها : ما نسخ حكمه وتلاوته كعشر رضعات .
  والثانى : ما نسخت تلاوته دون حكمه , كخمس رضعات ، والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما .
  والثالث : ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته ، وهذا هو الأكثر ، ومنه قوله تعالى : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ } البقرة : 240 .  
  وبعد :
  فقد ظهر واضحاً جلياً أن قصة سالم  صحيحة رواية ودراية ، تلقاها علماء الأمة منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا - وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها – بالقبول , بصرف النظر عن كونها واقعة خاصة أو عامة ، ويشهد لهذا التلقى للحديث بالصحة أن جميع الصحابة  أجمعين لم ينقل لنا عن أحدٍ منهم استنكار أو حتى استغراب للقصة ! ، وإنما نقل لنا اختلافهم فى حكمها الفقهى .
  فجمهور الصحابة على أن قصة سالم واقعة عين خاصة به ، ولا يصح الإحتجاج بها لغيره ، وتابع على ذلك جمهور علماء الأمة من التابعين فمن بعدهم ، وانفردت عائشة - رضى الله عنها - مع قلة من الفقهاء منهم : عروة بن الزبير ، وعطاء بن أبى رباح ، والليث بن سعد ، وابن علية ، وغيرهم رأوا أن قصة سالم عامة ، وأن إرضاع الكبير يثبت به التحريم  .  272
  وللكل وجهة نظر ودليل .
  فالجمهور على أن قصة سالم  خاصة به لما وقع له من التبنى الذى أدى إلى اختلاطه بسهلة , فلما نزل الإحتجاب ، ومنع التبنى شق ذلك على أبى حذيفة وسهلة لما تقرر فى نفسهما أنه ابنهما ، وحيث كان يدخل على سهلة كيف شاء ولا تحتشم منه كما جاء من قولها فى رواية أحمد " وليس لهم إلا بيت واحد " .
  فمن أجل رفع المشقة ، ولما اجتمع فى سالم من صفات لا توجد فى غيره ، وقع له الترخيص فى الرضاعة مع بلوغه لما تقرر فى نفوسهم جميعاً من صفات الأبوة من سالم تجاه أبى حذيفة وسهلة ، وصفات البنوة من أبى حذيفة وسهلة تجاه سالم .
  ومما يؤكد ذلك ذهاب ما فى نفس أبى حذيفة نتيجة لهذا الرضاع .
  يقول فضيلة الأستاذ الدكتور موسى شاهين :
  " ولا أظنه يذهب ما فى نفس غير أبى حذيفة مع غير سالم " .  273
  وذهب الجمهور أيضاً بنسخ قصة سالم بما جاء من الأحاديث الدالة على اعتبار الحولين .
  أما عائشة - رضى الله عنها - ومن قال بقولها من الفقهاء فرأوا أن قصة سالم  عامة للمسلمين ، لمن حصل له ضرورة , وللكل فى هذا الخلاف وجهة نظر ودليل ، ولم يكن لهذا الاختلاف بينهم أى أثر فى اعتقادهم صحة الحديث ، الذى يحاول دعاة الفتنة وأدعياء العلم تضعيفه أو النيل من عدالة رواته ، ومن أخرجه من الأئمة الأعلام فى كتبهم .
  ويؤخذ من قصة سالم صدق إيمان سهلة وأبى حذيفة ، وسرعة امتثالهما للوحى الإلهى ، لأن الغيرة منهما وقعت نتيجة لما نزل فى كتاب الله عز وجل من النهى عن التبنى ، والأمر بالاحتجاب , فتغيرت نظرة البنوة نحوه ، امتثالاً لما نزل .
  ولو كانت الغيرة لشئ غير ذلك ، لما كان هناك معنى لذهاب ما فى نفس أبى حذيفة بتلك الرضاعة ، التى ما كانت إلا أمراً إلهياً ، امتثل له الجميع ، ورفعت عنهما به المشقة والحرج , والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم .
         

الحديث الحادي والأربعون
نحن أحق بالشك من إبراهيم
 عن أبي هريرة  :
  أن رسول الله  قال : " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } , ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد , ولو لبث في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي " .  274
   الشبهة : هذا الحديث طعن فيه أعداء السنة والسيرة قديماً من أهل الأهواء والبدع ، وزعموا أن فيه طعناً في عصمة الأنبياء , فقول النبي : " نحن أحق بالشك من إبراهيم " فيه ثبوت الشك لرسول الله والأنبياء ، وأنهم جميعاً أولى به من إبراهيم   .
   والجواب : قال الإمام ابن حجر ـ رحمه الله ـ :
  " اختلف العلماء فى معنى " نحن أحق بالشك من إبراهيم " على أقوال كثيرة , أحسنها وأصحها ما قاله الإمام أبو إبراهيم المزنى صاحب الشافعى وجماعات من العلماء معناه : أن الشك مستحيل فى حق إبراهيم  فإن الشك فى إحياء الموتى لو كان متطرقاً إلى الأنبياء , لكنت أنا أحق به من إبراهيم وقد علمتم أنى لم أشك , فاعلموا أن إبراهيم  لم يشك , وإنما خص إبراهيم  لكون الآية قد يسبق إلى بعض الإذهان الفاسدة منها احتمال الشك , وإنما رجح إبراهيم على نفسه  تواضعاً وأدباً , أو قبل أن يعلم  أنه خير ولد آدم.
   قال صاحب التحرير : قال جماعة من العلماء : لما نزل قول الله تعالى : { أولم تؤمن } , قالت طائفة : شك إبراهيم , ولم يشك نبينا , فقال النبى  نحن أحق بالشك منه فذكر نحو ما قدمته , ثم قال : ويقع لى فيه معنيان :
  أحدهما : أنه خرج مخرج العادة فى الخطاب , فإن من أراد المدافعة عن إنسان قال للمتكلم فيه ما كنت قائلاً لفلان , أو فاعلاً معه من مكروه فقله لى , وافعله معى ومقصودة : لا تقل ذلك فيه .
  والثانى : أن معناه أن هذا الذى تظنونه شكاً أنا أولى به , فإنه ليس بشك وإنما هو طلب لمزيد اليقين , وقيل غير هذا من الاقوال فنقتصر على هذه لكونها أصحها وأوضحها , والله أعلم " .   275
         

الحديث الثاني والأربعون
إن المرأة تقبل في صورة شيطان
 عن جابر بن عبد الله  قال :
  قال رسول الله  : " إن المرآة إذا أقبلت أقبلت في صورة شيطان , فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله , فإن معها مثل الذي معها " .  276
  الشبهة : قالوا : وكيف تقبل المرآة في صورة شيطان ؟!
  الجواب : قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ :
  " معنى الحديث : أنه يستحب لمن رأى امرأة فتحركت شهوته أن يأتي امرأته أو جاريته إن كانت له , فليواقعها ليدفع شهوته , وتسكن نفسه , ويجمع قلبه على ما هو بصدده .
  وقوله  : " إن المرأة تقبل في صورة شيطان , وتدبر في صورة شيطان" قال العلماء : معناه الإشارة إلى الهوى والدعاء إلى الفتنة بها , لما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النساء والإلتذاذ بنظرهن , وما يتعلق بهن , فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشر بوسوسته وتزيينه له , ويستنبط من هذا أنه ينبغى لها أن لا تخرج بين الرجال إلا لضرورة , وأنه ينبغى للرجل الغض عن ثيابها والإعراض عنها مطلقاً " .  277
  وقال العلامة المناوي :  
  " إن المرأة تقبل في صورة شيطان " : أي في صفته , وشبه المرأة الجميلة بالشيطان في صفة الوسوسة والإضلال , يعني أن رؤيتها تثير الشهوة , وتقيم الهمة , فنسبتها للشيطان لكون الشهوة من جسده وأسبابه , فالمراد أنها تشبه الشيطان في دعائه إلى الشر ووسوسته وتزيينه .
  قال الطيبي : جعل صورة الشيطان ظرفاً لإقبالها مبالغة على سبيل التجريد  لأن إقبالها داع للإنسان إلى استراق النظر إليها كالشيطان الداعي للشر , وتدبر في " صورة شيطان " ,  لأن الطرف رائد القلب , فيتعلق بها عند الإدبار أيضاً بتأمل الخصر والردف وما هنالك  .
  وخص إقبالها وإدبارها مع كون رؤيتها من جميع جهاتها داعية إلى الفساد لأن الإضلال فيهما أكثر , وقدم الإقبال لكونه أشد فساداً لحصول المواجهة به.
  " فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته " أي : استحسنها لأن غاية رؤية المتعجب منه استحسانه , " فليأت أهله " , أي : فليجامع حليلته ـ زوجته ـ ," فإن ذلك " أي جماعها , " يرد ما في نفسه "  ويغلبه ويقهره ويدفع الوسواس , وهذا من الطب النبوي " .   278
         
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
حامل المسك
المدير العام للمنتدى
المدير العام للمنتدى



عدد المساهمات : 1631
تاريخ التسجيل : 21/03/2012

كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات Empty
مُساهمةموضوع: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات   كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات I_icon_minitimeالخميس ديسمبر 05, 2013 6:23 pm

الحديث الثالث والأربعون
القرآن أنزل على سبعة أحرف
  عن عمر بن الخطاب  كان يقول :
  " سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان فى حياة رسول الله  ، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة ، لم يقرئنيها رسول الله  ، فكدت أساوره فى الصلاة ، فانتظرت حتى سلم ، ثم لببته بردائه ، فقلت : " من أقرأك هذه السورة ؟ " قال : أقرأنيها رسول الله  .
  قلت له : كذبت فوالله إن رسول الله  أقرأنى هذه السورة التى سمعتك تقرؤها ، فانطلقت أقوده إلى رسول الله  فقلت : يا رسول الله إنى سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ، وأنت أقرأتنى سورة الفرقان .
  فقال رسول الله  : " أرسله يا عمر : اقرأ يا هشام " , فقرأ هذه القراءة التى سمعته يقرؤها , قال رسول الله  : " هكذا أنزلت " , ثم قال رسول الله  : " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف , فاقرأوا ما تيسر منه " .   279
   الشبهة : حديث نزول القرآن الكريم على سبعة أحرف طعن فيه الرافضة قديماً ، وزعموا بأنه يثبت كفر الصحابة بوقوع التحريف اللفظى فى القرآن الكريم ، وهم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام .  280
  ومن طعون الرافضة ، استدل إخوانهم من المستشرقين ، وتكلموا كثيراً فى موضوع القراءات بالأحرف السبعة محاولين إثبات أن هذه القراءات ليست من الوحى أساساً ، وإنما نجمت عن " القراءة بالمعنى " ، فلم يكن نص القرآن بحروفه بالنسبة لبعض المؤمنين هو المهم ، ولكن المهم هو روح النص ، ودليلهم ما جاء فى بعض الروايات وفيها : " كلها شاف كاف ، ما لم تختم آية عذاب برحمة ، أو آية رحمة بعذاب ، نحو قولك : تعال وأقبل ، وهلم ، واذهب  وأسرع ، وعجل " .  281
  وقال غير واحد من هؤلاء : " إن القرآن تلى بلغة واحدة ، ولهجة واحدة هى لغة قريش ولهجتها ، لم يكد يتناولها القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته ، وتعددت اللهجات فيه ، وتباينت تبايناً كثيراً . . , إلى أن يقول : والحق أن ليست هذه القراءات السبع من الوحى فى قليل ولا كثير ، وليس منكرها كافراً ولا فاسقاً ولا مغتمزاً فى دينه ، وإنما هى قراءات مصدرها اللهجات , واختلافها للناس أن يجادلوا فيها , وأن ينكروا بعضها ويقبلوا بعضها " .   282
   والجواب على ذلك :
  أولاً : حديث " أنزل القرآن على سبعة أحرف " , جاء متواتراً عن جمع من الصحابة  فأورده الحافظ السيوطى فى الأزهار المتناثرة من حديث عمر، وعثمان ، وأبى بن كعب ، وأنس ، وحذيفة بن اليمان ، وزيد بن أرقم ، وسمرة بن جندب ، وسليمان بن صرد ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعمر بن أبى سلمة ، وعمرو بن العاص ، ومعاذ بن جبل ، وهشام بن حكيم ، وأبى بكرة ، وأبى جهم ، وأبى سعيد الخدرى ، وأبى طلحة , وأبى هريرة ، وأم أيوب ، وزاد الكتانى حديث ابن عمر ، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو ابن العاص .   283
  فهؤلاء أربع وعشرون صحابياً ، ما منهم إلا رواه وحكاه .
  وتظهر فى هذه الروايات : " أن اختلاف القراء إنما حدث فى حياة الرسول  " فيما تلاه عليهم وسمعوه منه مشافهة ، ولم يأت هذا الخلاف نتيجة النظر فى المصحف المكتوب المقروء الخالى من النقط والشكل ، كما زعم هؤلاء الذين طعنوا في الحديث .
  ثانياً : لو كان خلو المصاحف من الشكل والإعجام سبباً فى تنوع القراءات واختلافها ، لكان القارئ الذى يقرأ الكلمة وفق رسم معين ، يلتزمه فى أمثاله ونظائره حيث وقع فى القرآن الكريم ، ولم يحدث هذا ، وإليك مثالاً واحداً .
  قوله تعالى فى فاتحة الكتاب : { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } , وقوله سبحانه { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } , وقوله تعالى فى سورة الناس { مَلِكِ النَّاسِ } .
  فلو تأملت المواضع الثلاثة فى المصحف ,  لوجدت الكلمة فيها كلها هكذا : " ملك " بالميم واللام والكاف فقط ، ولكن حفصاً يقرأ عن عاصم ، فى الفاتحة " مالك "  بالألف بعد الميم ، وكذلك يقرأ آية آل عمران ، أما فى سورة الناس فيقرأ " ملك " من دون الألف , ولو كان حفص يقرأ وفق رسم المصحف لقرأ فى المواضع الثلاثة : " ملك " ، ولكنه يقرأ بالرواية المتواترة عن رسول الله  .  284
  وكذلك قد تختلف القراءات أحياناً لغة ونحواً ، وهكذا يبدو للناس فى ظاهر الأمر ، ولكن الاختلاف فى الحقيقة راجع إلى التلقى والرواية ، لا إلى القاعدة اللغوية أو النحوية .
  وهذا مثال واحد : قال الله تعالى : { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } , جاءت هذه الآية فى موضعين , ويقرأ القراء جميعاً " كلاً " , بالنصب فى الآيتين ، لكن ابن عامر يقرأ آية النساء بالنصب ؛ كسائر القراء ، أما آية الحديد فيقرأها وحده " وكلُ " بالرفع ، وللنحويين فى توجيه الرفع والنصب كلام .
  فلو كان ابن عامر يقرأ وفق القاعدة النحوية لقرأ الآيتين بالرفع ، ولكنه قرأ بالرواية التى تلقاها هو بالتواتر عن سيدنا رسول الله  : مرة بالنصب ، ومرة بالرفع ، مع أن تركيب الآية واحد فى الموضعين .
  وهكذا يختلف القراء ويتفقون بحسب الرواية والتلقى ، وليس بحسب رسم المصحف أو الوجه النحوى أو اللغوى ، صحيح أن هذين فى الاعتبار ، ولكن بعد ثبوت الرواية بالتواتر ، والسند الصحيح إلى رسول الله  ، وموافقة الرسم العثمانى ، وأن يكون للقراءة وجه صحيح من العربية .
  فإذا سمعت قراءة مسندة لواحد من القراء السبعة أو العشرة ؛ كأن يقال : قراءة نافع أو عاصم أو الكسائى ، فلا تظن أنها من اختراعه أو ابتداعه ، ولكنها اختياره الذى ارتضاه من طريق الرواية المسندة الصحيحة .
  يقول الدكتور محمود الطناحى :
  " " فثبت إذن أن القراءات القرآنية كلها بوجوهها المختلفة من عند الله ، ولا دخل لخط المصحف فيها ، ولا للوجوه النحوية أو اللغوية فيها كذلك ، وثبت أيضاً أن اختلاف القراءات القرآنية إنما هو اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد "  285
  أما ما زعمه دعاة اللادينية أن القراءات ليست من الوحى ، ومصدرها لهجات القبائل المختلفة ، فهذا كذب آخر , يبطله أن المختلفين فى الخبر المذكور الذى أوردناه آنفاً كل منهما قرأ سورة الفرقان بحرفين مختلفين ، كانا جميعاً بنى عم قرشيين ، من قريش البطاح ، من قبيلة واحدة ، جاران ساكنان فى مدينة واحدة ، وهى مكة ، لغتهما واحدة ، وهما عمر بن الخطاب بن نفيل ابن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قريط بن رزاح بن عدى بن كعب ، وهشام بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن كلاب بن مرة بن كعب ، ويجتمعان جميعاً فى كعب بن لؤى ، بين كل واحد منهما ، وبين كعب بن لؤى ، ثمانية آباء فقط .
  فظهر كذب من ادعى أن اختلاف الأحرف ، إنما كان لاختلاف لغات قبائل العرب , وأبى ربك إلا أن يحق الحق , ويبطل الباطل ، ويظهر كذب الكاذب ،    
ونعوذ بالله العظيم من الضلال والعصبية للخطأ .   286
  ثالثاً : فإن قيل : فإنا نجد بعض الكلمات يقرأ على سبعة أوجه ؟! .
  فالجواب : " أن غالب ذلك إما لا يثبت الزيادة ، وإما أن يكون من قبيل الاختلاف فى كيفية الأداء كما فى المد والإمالة ونحوهما " .   287
  قال الشيخ الزرقانى - رحمه الله - :
  " وليس المراد أن كل كلمة من القرآن تقرأ على سبعة أوجه : إذاً لقال  : " إن هذا القرآن أنزل سبعة أحرف " بحذف لفظ  :" على " .
  بل المراد ما علمت من أن هذا القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة ، بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه ، مهما كثر ذلك التعدد والتنوع فى أداء اللفظ الواحد ، ومهما تعددت القراءات ، وطرقها فى الكلمة الواحدة .
   فكلمة { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } , التى ورد أنها تقرأ بطرق تبلغ السبعة أو العشرة ، وكلمة { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } , التى ورد أنها تقرأ باثنتين وعشرين قراءة ، وكلمة { أُفٍّ } من قوله تعالى : { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا } , والتى أوصل الرمانى لغاتها إلى سبع وثلاثين لغة .
وكل أولئك وأشباه أولئك لا يخرج التغاير فيه على كثرته عن وجوه سبعة " . 288
  وعلى هذا فالمراد بالأحرف فى الحديث وجوه فى الألفاظ وحدها لا محالة ، بدليل أن الخلاف الذى صورته لنا الروايات المذكورة كان دائراً حول قراءة الألفاظ لا تفسير المعانى ، مثل قول عمر في روايه للحديث : " إذ هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله  " , ثم حكم الرسول أن يقرأ كل منهما، وقوله  : " هكذا أنزلت " , وقوله  : " أى ذلك قرأتم فقد أصبتم " ونحو ذلك ، ولا ريب أن القراءة أداء الألفاظ ، لا شرح المعانى .   289
  إن القراءات كلها على اختلافها كلام الله ، لا مدخل لبشر فيها ، بل كلها نازلة من عنده تعالى ، مأخوذة بالتلقى عن رسول الله  ، يدل على ذلك أن الأحاديث الماضية تفيد أن الصحابة  كانوا يرجعون فيما يقرأون إلى رسول الله  يأخذون عنه ويتلقون منه كل حرف يقرأون عليه ، انظر قوله  فى قراءة كل من المختلفين : " هكذا أنزلت " , وقول المخالف لصاحبه : " أقرأنيها رسول الله  " .
  ثم أضف إلى ذلك أنه لو صح لأحد أن يغير ما شاء من القرآن بمرادفة أو غير مرادفة ، لبطلت قرآنية القرآن ، وأنه كلام الله ، ولذهب الإعجاز ، ولما تحقق قوله سبحانه وتعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } .
  وبعد : إن القراءات كلها على اختلافها كلام الله ، لا مدخل لبشر فيها ، بل كلها نازلة من عنده تعالى ، مأخوذة بالتلقى عن رسول الله  وحفظها سيدنا عثمان  فى جمعه لكتاب الله ، ومعاذ الله أن يسقط منها شيئاً ، وهى مثبوتة فى القراءات المشهورة فى مشارق الأرض ومغاربها .


الحديث الرابع والأربعون
ما أري ربك إلا يسارع في هواك
  عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت :
  " كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله  , وأقول : أتهب المرأة نفسها ؟ , فلما أنزل الله تعالى : { ترْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ } , قلت : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك " .  290
   الشبهة : ما هو المقصود بقول السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ بأن الله جل وعلا يسارع في هوي نبيه  ؟!
   والجواب : قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ :
   " قولها : في معنى يسارع في هواك , أي يخفف عنك ويوسع عليك , في الأمور ولهذا خيرك .
  وقال القرطبي : هذا قول أبرزه الدلال والغِيرة , وهو من نوع قولها في حادثة الإفك : " ما أحمدكما ولا أحمد إلا الله " .
   وإلا فإضافة الهوى إلى النبي  لا تحمل على ظاهره , لأنه لا ينطق عن الهوى , ولا يفعل بالهوى , ولو قالت : إلى مرضاتك لكان أليق ,  ولكن الغيرة
يغتفر لأجلها إطلاق مثل ذلك " .  291
  قلت ـ المصنف ـ  : ومما يوضح لنا أن قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ كان من باب الدلال والغيرة ليس إلا ، هو ما جاء عنها في صحيح مسلم حيث قالت " كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله  " .   292

الخـــــاتمـــــــة
  اعلم أخي الموحد : إن دين الإسلام هو الدين الحق الذى ارتضاه الله للناس دينا , قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا }المائدة : 3 ، فعلى المسلمين أن يعوا خطورة الادِّعاءات التي تثار حول دينهم وعقيدتهم ، كما يجب عليهم تفحُص الخطاب المغلف الذي يوجه إليهم من الغرب ، فكم من رزية حسبناها هدية ، وكم من محنة توهمناها منحة .
  فأعداء الإسلام لا يتوانون عن إلصاق الشبهات التى من شأنها أن تعوق حركة المد الإسلامى التى يكتسح بها قارات العالم ، ومن أجل ذلك يجب على المسلمين أن يعملوا على تكوين منظمات إسلامية للدفاع عن الإسلام ودحض شبهات أعدائه ، بأسلوب علمي رصين , يقوم برصد كل ما يقع من شبهات وافترءات وردها على الوجه الأكمل .
  وفي الختام أقول : أن ما كان من توفيق أو رشاد أو سداد فمن الله جل وعلا وحده ، وما كان من خطأ أو نسيان أو زلل فمنى ومن الشيطان .  
أسال الله تعالى أن يكون هذا العمل لوجهه خالصاً ، وأن يجعله عملاً صالحاً متقبلاً ، إنه ولى ذلك والقادر عليه .              


أهم المراجع
  القرآن الكريم .
  كتب السنة .
  كتب الإمام الألباني .    
  " فتح الباري شرح صحيح البخاري " لابن حجر العسقلاني .
" المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج " للإمام النووي .
" فيض القدير شرح الجامع الصغير " للعلامة المناوي .
" تأويل مختلف الحديث " لأبو محمد ابن قتيبة .
" بيان مشكل الآثار " للإمام الطحاوي  
" حاشية السندي على سنن النسائي " للإمام السندي .
" جاشية السندي على سنن ابن ماجة " للإمام السندي .
" شبهات المشككين " للدكتور محمود حمدي زقزوق .
" دفاع عن السنة " للدكتور محمد أبو شهبة .  
" رد شبهات حول عصمة النبي  " لعماد الشربيني .    
" كتابات أعداء الإسلام ومناقشتها " لعماد الشربيني .
" ضلالات منكري السنة " للدكتور طه حبيشي  .

 1 أنظر :  "  شرح نخبة الفكر "  للقارئ ( ص : 362 ) , " تدريب الراوي " 2/175، " المنهل الروي " لابن جماعة ( ص :60 ) .
 2" شرح مشكل الآثار "  لأبي جعفر الطحاوي 1/6 .  
  3" الإحكام في أصول الأحكام "  2/163 .
  4" تدريب الراوي " للسيوطي  2/175 , " فتح المغيث " للسخاوي  3/470 .
 5 " مجموع الفتاوى " لابن تيمية 20/ 246 .
 6 أنظر : " تدريب الراوي " للسيوطي 2/176 ، " المنهل الروي " لابن جماعة 1/60  " فتح المغيث " للسخاوي 3/470 .
  7" تفسير الطبري " لابن جرير الطبري 5/179.
  8" المسودة " ( ص : 306 ) .
  9" زاد المعاد " لابن القيم 4/ 149 .
  10" الموافقات " 4/294 .
  11" زاد المعاد " لابن القيم 4/149 .
  12الطيرة : التشاؤم بالطيور .
13   المجذوم : المصاب بالجذام , وهو داء تتساقط أعضاء من يصاب به .
  14أخرجه الترمذي في كتاب " القدر " 4/ 450 وأخرجه أحمد .
  15أخرجه البخاري في كتاب " الطب " 10/ 171 مع فتح الباري ، وأخرجه مسلم وأبو داود وأحمد .
   16" تأويل مختلف الحديث " ( ص : 145 ) .
  17" تدريب الراوي " 2/175 , و قريب منه كلام ابن جماعة في " المنهل الروي " (60) ، وكذا السخاوي في : " فتح المغيث " 3/71 .
  18" نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض " 4/39 .
  19 أنظر : " الإحكام " لابن حزم 1/124 , و " إرشاد الفحول " للشوكاني 1/159  
  20 أنظر : " الشفا " للقاضي عياض 2/144 .
 21 " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي 17/85 .
   22رواة مسلم رقم : ( 2361 ) .
  23أخرجه أبو داود رقم : ( 4604 ـ 4605 ) .
  24أنظر : " حجية السنة " لعبد الغني عبد الخالق ( ص : 279 ، 282 ) .
 25 صحيح : رواة البخاري رقم ( 2786 ) , ومسلم رقم ( 22 ) .
   26أنظر : " الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية " لمحمد عمارة : ( ص : 130 ـ 137 ) .
   27صحيح : رواة البخاري رقم : ( 3228 ) .
 28  لمزيد من التفصيل حول هذه الشبهة أنظر : " رفع الشبهة والغرر عمن يحتج بفعل المعاصي بالقدر " لمرعي بن يوسف الحنبلي الكرمي ( ص : 1ـ 31 )  , طبعة : " دار حراء ـ مكة المكرمة ) .  
  29أخرجه أحمد في : " المسند " طبعة ( مؤسسة قرطبة ـ القاهرة ) , رقم ( 17279 ) وقال الارنؤوط : إسناده صحيح ورجال ثقات ,
  3030أنظر : " التوسل أحاكمه وأنواعه " للإمام الألباني ( ص : 71 ،77 )  , طبعة ( المكتب الإسلامي  ـ بيروت ) .
 31 أخرجه البخاري رقم : (3507 ، 964 ) .
  32رواة البخاري رقم : ( 891 ) ومسلم رقم : ( 897 ) وغيرهم .
  33حسن : رواة أبو داود رقم : ( 1173 ) وحسنة الألباني .
 34أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 3/150 .
 35أنظر : " التوسل أحاكمه وأنواعه " للإمام الألباني ( ص : 63 ، 65 )  , طبعة ( المكتب الإسلامي  ـ بيروت ) .

  36 أنظر : " السلسلة الضعيفة " للألباني 1/89 .
 37 أنظر : " السلسلة الضعيفة " للألباني 1/82 .
 38 أنظر" اللؤلؤ المرصوع " للمشيشي ( 454 ) و " السلسلة الضعيفة " للألباني (282 ) .
 39 أنظر  :  " اقتضاء الصراط المستقيم " لابن تيمية 2/415  , و " الضعيفة " للألباني
( 22 ) .
 40 أنظر  :  " الأسرار المرفوعة " للقاري ( 470 ) ,  و " المنار المنيف " لابن القيم ( 308 ) .
 41 أنظر : " الضعيفة " للألباني 1/79 .
 42 أنظر : " اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة " 2/299 , و " الموضوعات " لابن الجوزي 3/173 , و " تنزية الشريعة "  2/233 .
 43 أنظر : " مجموع الفتاوى " 11/293 .
 44 أنظر : " إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان " لابن القيم 1/243 .
  45 أخرجه أحمد في : " المسند " رقم : ( 2455 ) وقال شعيب الارنؤوط : رجاله ثقات ، رجال الشيخين ، غير كلثوم بن جبر من رجال مسلم ، وثقه أحمد وابن معين ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال النسائي : ليس بالقوي .  
 46  أنظر : " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة ( ص : 84 ، 85 ) .
47 أخرجه البخاري رقم : ( 1226 ) , و مسلم رقم : ( 927 ) .
 48 أنظر : " فتح الباري شرح صحيح البخاري " لابن حجر العسقلاني 3/152 ، 155
  49رواة مسلم رقم : ( 2372 ) , والبخاري رقم : ( 3227 ) .
  50أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 6/442 , 442   , و : " مسلم بشرح النووي " للنووي 15/130 .
 51 حسن : حسنه الإمام الألباني في " سنن أبي داود " رقم ( 2607 ) , و" سنن الترمذي " رقم ( 1674 ) .
 52 أنظر : " تأويل نختلف الحديث " لابن قتيبة ( ص : 154 ، 155 ) .
 53 أنظر : " عون المعبود شرح سنن أبي داود " للعظيم آبادي 7/191 طبعة ( دار الكتب العلمية ـ بيروت الطبعة الثانية ) .
 54" عون المعبود " للعظيم آبادي 7/193 .  
  55أنظر : " فيض القدير شرح الجامع الصغير " للمناوي 4/43 طبعة : ( المكتبة التجارية الكبرى ـ مصر الطبعة الأولى ) .
  56رواة مسلم رقم : ( 1198 ) وأبو داود رقم : ( 1846 ) , والنسائي رقم : ( 2881 ) وغيرهم .
 57 أنظر : " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة 1/141 ، 142 .  
  58رواة أبو داود والحاكم وأحمد وابن خزيمة ، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " رقم (1676) .
 59 أنظر : " الروح " لابن القيم ( ص : 65،63 ) .
 60 رواة البخاري رقم :  (6581 ) , ومسلم رقم : ( 160 )
 61 أنظر : " صحيح البخاري " 9/38 .
  62أنظر : " فتح الباري " لابن حجر  12/376 .
 63 أنظر : " شبهات المشككين " للدكتور / محمود حمدي زقزوق , الشبهة رقم : ( 52)  .
 64رواة البخاري رقم : ( 5430 ) , ومسلم رقم : ( 2189 ) , وغيره .  
 65 أنظر : " المعلم بفوائد مسلم " 3/93 .
 66 أنظر : " عمدة القاري شرح صحيح البخاري " لبدر الدين العيني 15/98 .
 67 أنظر : " حاشية السندي على سنن النسائي " للسندى 7/113.
 68أنظر : " فتح الباري " لابن حجر10/237،" نيل الأوطار " للشوكاني 17/211 .
 69 أنظر : " الشفا بتعريف حقوق المصطفى " للقاضي عياض 2/113 .
  70أخرجه البخاري رقم : ( 678 ) .
 71 أنظر : " بدائع الفوائد " 2/192 , و " زاد المعاد " 4/124 .
  72أنظر : " الزواجر عن اقتراف الكبائر " لابن حجر الهيتمي 2/163 .
73 أنظر : " مفاتيح الغيب " 32/172 ، و " عمدة القاري " 21/280 .
 74 أنظر : " أحكام القرآن " للجصاص 1/58 .
 75 أنظر : " أحكام القرآن "  للجصاص 1/59 ، و" مفاتيح الغيب " 32/172 ، و" بدائع الفوائد " 2/191 .
76 انظر : " بدائع الفوائد " 2/191.
 77 أنظر : " بدائع الفوائد " 2/192 ، و" مفاتيح الغيب " 32/172 .
 78صحيح : صححه الألباني في " سنن ابن ماجة " رقم : ( 3595 ) .  
 79 أنظر : " الحلال والحرام " للقرضاوي ( ص : 80 ) طبعة ( الدوحة ـ قطر ) .
  80أنظر : " نيل الأوطار " للشوكاني 2/81 , طبعة ( دار الجبل ـ بيروت ) .
  81" نيل الأوطار " 2/72 , و  فقة السنة " للسيد سابق 3/481 .  
 82 " فقة السنة " للسيد سابق 3/482 . أنظر : " شبهات المشككين " شبهة رقم ( 147 ) .
  83متفق عليه : رواة البخاري رقم : ( 3112 ) ، ومسلم رقم : ( 2366 ) .
 84 أنظر : تفسير " روح المعاني " للألوسي 3/137, طبعة ( دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ) .
 85 أنظر : " مسلم بشرح النووي " للنووي 15/120, طبعة ( دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ) .
  86أنظر : " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي 4/68 .
  87أخرجه البخاري رقم : ( 159 ) , ومسلم رقم : ( 278 ) .
 88 أنظر : " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة ( ص : 130 ، 131 ) .
 89 حسن : حسنه الألباني في : " السلسلة الصحيحة " برقم : ( 673 ) .
  90أنظر : " مشكل الآثار " للإمام للطحاوي .
  91رواة البخاري رقم : ( 3592 ) , ومسلم رقم : ( 2466 ) , والترمذي : ( 3848 ) , وابن ماجة : ( 158 ) .
 92أنظر : " مسلم بشرح النووي " 16/24 .
  93" تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة : ( ص : 265 ، 267 ) .
  94أنظر : " فتاوى الأزهر " لدار الإفتاء المصرية .
 95 أخرجه البخاري رقم : ( 5079 ) , ومسلم رقم : ( 2060 ) ، والترمذي رقم : ( 1818 ) .وغيرهم .  
 96 أنظر : " فتح الباري شرح صحيح البخاري " لابن حجر 9/538 ، 540 .
 97 أنظر : " فيض القدير شرح الجامع الصغير " للمناوي 6/251 .
98 أنظر : " مشكل الآثار " للإمام للطحاوي .
 99متفق عليه : رواة البخاري رقم : ( 6361 ) ومسلم رقم : ( 2601 ) .
  100 متفق عليه .
  101متفق عليه .
  102أخرجه مسلم 8/27 .
 103رواة البخاري رقم : ( 334 ) ومسلم رقم : ( 1064 ) .
 104أنظر : " نيل الأوطار  " للشوكاني  1/298 , و " الشفا بتعريف حقوق المصطفى " للقاضي عياض 2/196 .
105 أنظر : " الشفا بتعريف حقوق المصطفي " للقاضي عياض " 2/196 .
  106أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 11/176 .
 107 رواة البخاري رقم : (  5684 ) .
 108 أخرجه الترمذى فى " الشمائل المحمدية " رقم ( 157)، وأبو داود فى سننه 1/48 ورجاله كلهم ثقات .
 109 أخرجه الترمذي رقم : ( 2616 ) وقال حسن صحيح , وابن ماجه رقم : ( 11394 ) وغيرهم .
  110رواة مسلم رقم : (  2603 ) .
 111 أخرجه أبو داود الطيالسى فى مسنده رقم : (2746) ، و " مسلم بشرح النووى " رقم (3604 )، والبيهقى فى " دلائل النبوة " 6/243 .
 112 أنظر : " مسلم بشرح النووي " للنووي 8/402 .
 113 أنظر : " البداية والنهاية " لابن كثير 8/122ـ123 .
  114رواة البخاري رقم : ( 268 ) , والنسائي في : " السنن الكبري " قم : ( 9033 ) .
 115 رواة مسلم رقم : ( 350 ) .
 116 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 1/451 .
117  رواة الترمذي رقم : ( 2612 )  , والنسائي في : " السنن الكبري " رقم : ( 9154 )
  118أخرجه الترمذي رقم : ( 3895 ) وقال : حسن صحيح , وابن ماجه رقم : ( 1977 )
  119أخرجه أيو داود رقم : ( 2135 ) .
  120رواة مسلم رقم : ( 1654 ) .
 121 أنظر : " فتح الباري " لان حجر 9/17 .
 122 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 1/449 .
 123 أخرجه البخاري رقم : ( 1975 ) , ومسلم رقم : ( 1159 ) .
 124 أخرجه البخاري رقم :(6039 ) .
  125أخرجه الترمذي رقم : ( 2489 ) وقال : حسن صحيح .
  126أخرجه البزار فى مسنده ، ورجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمى فى مجمع الزوائد 2/258،
 127 أخرجه أبو داود رقم : ( 1303 ) .
  128أخرجه النسائي في : " سننه الكبري " رقم : ( 8910 ) .
 129 أخرجه مسلم رقم : ( 739 ) .
 130 أخرجه البحاري رقم : ( 1198 ) , ومسلم رقم : ( 763 ) .
 131 أخرجه البخاري رقم : ( 4956 ) .
  132أنظر : فتح الباري " لابن حجر 9/358 ، 359 .
  133رواة البخاري رقم : ( 298 ) , ومسلم رقم : ( 913 ) .
 134 أنظر : " الطرق الحكمية في السياسة الشرعية " لابن القيم ( ص : 236 ) .
  135أنظر : " الأعمال الكاملة " لمحمد عبده 4/606 .
 136 أنظر : " الأهرام "  في 29/ 4/2001 ( ص : 2 ).
 137 أنظر : " شبهات المشككين " للدكتور محمود حمدي زقزوق .
 138 أخرجه البخاري رقم : ( 4625 )  و مسلم رقم : ( 2860 ) .
  139 " الكفاية في علم الرواية "  للخطيب البغدادي (  ص : 48-49 ) .
 140 أخرجه البخاري رقم : ( 2652 ) .
 141 أخرجه البخاري رقم : ( 3470 ) ومسلم رقم : ( 2540 ) .
 142 أخرجه الترمذي رقم : ( 3862 ) .
 143 أنظر : " شرح الكوكب المنير " 2/475 .
  144صحيح : أخرجه الترمذي رقم ( 3747 ) وصححه الألباني .
  145صحيح : أخرجه أحمد في " المسند رقم ( 15297 ) وقال شعيب الارنؤوط : صحيح وهذا إسناد حسن .
 146 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 11/385 .
  147أنظر :" الفرق بين الفرق " لبعد القاهر البغدادي ( ص :353 ) الطبعة الثانية ( دار الأفاق الجديدة ـ بيروت ) .
 148 أنظر : " مسلم بشرح النووي " للنووي 3/136ـ137 .
 149 أنظر : " المفهم لما أشكل من صحيح مسلم " لأبي العباس القرطبي 1/504 .
 150 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 11/385 .
 151 أخرجه مسلم رقم : ( 2531 ) .
 152 أنظر : " شرح السنة " للبغوي 1/194 .
  153أنظر : " مسلم بشرح النووي " للنووي 3/137 .
  154أنظر : " التذكرة " للقرطبي 1/348 .
 155 أخرجه البخاري رقم : ( 6281 ) و مسلم رقم  : ( 2332 ) .
 156 أخرجه البخاري رقم : ( 2788 ) ومسلم رقم : ( 1812 ) .
 157 أنظر : " لماذا القرآن " ( ص : 92ـ94 ) و " قراءة في صحيح البخاري " ( ص  : 41ـ46 ) كلاهما لأحمد صبحي منصور .
 158 رواة أحمد في " المسند " 3/239 .
 159 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 6/60 .
 160 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 11/80ـ81 و " مسلم بشرح النووي " 7/67 .
  161رواة البخاري رقم : ( 5288 ) و مسلم رقم : ( 1866 ) .
  162أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 11/75 .
 163 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 11/80ـ81 , و " مسلم بشرح النووي " 7/67 .  
  164روام مسلم رقم : ( 2331 ) .
 165 رواة أبو داود رقم : ( 2492 ) .
  166أنظر : " السنة في مواجهة أعدائها " للدكتور طه حبيشي ( ص : 204 ) .  
  167أنظر : " مسلم بشرح النووي " 7/67 .  
 168 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 11/75 , و " مسلم بشرح النووي " 7/69
 169 أنظر " السنة في مواجهة أعدائها " لفضيلة الدكتور طه حبيشي ( ص : 202ـ206 )
 170 صحيح : رواة النسائي رقم : ( 3941 ) وصححه الألباني .
      171 أنظر : " سفر التكوين "  16/16.
       172رواة البخارى رقم ( 2967) ، ومسلم رقم ( 715) ، وأبوداود ( 3347 ) وغيرهم .
      173 رواة البخارى رقم ( 314 ) , ومسلم رقم ( 332 ) وغيرهم .
       174والقصة موجودة في كتب التفسير والسيرة لمن أراد أن يرجع إليها . .
      175رواة البخارى رقم (371 ) ، ومسلم رقم ( 1345) وغيرهم .
       176أنظر : " البداية والنهاية " لابن كثير 4/145 .
 177 أنظر : "  شرح السيوطي لسنن النسائي " للسيوطي 7/62ـ65 , الطبعة الثانية ( مكتبة المطبوعات الإسلامية ـ حلب )
 178 أخرجه البخاري رقم : ( 949 ) ومسلم رقم : ( 892 ) .
 179أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 2/514 .
 180 أخرجه مسلم رقم : ( 892 ) .
 181 أنظر : " إحياء علوم الدين " للغزالي 2/303ـ304 .
 182أخرجه البخاري رقم : ( 987 ) ومسلم رقم : ( 893 ) .
 183 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 2/515 , و " مسلم بشرح النووي " 3/455 .
 184 أنظر : المصدر السابق .
 185 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 2/513 , و " مسلم بشرح النووي " 3/452 .
186 ضعيف : أخرجه ابن ماجة رقم : ( 750 ) وفيه : محمد بن سعيد : كذاب .
  187أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 1/456 , و " مسلم بشرح النووي " 3/453 .
 188 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 2/516 , و " مسلم بشرح النووي " 3/453 .  
 189صحيح : صححه الإمام الألباني في " السلسلة الصحيحة " رقم ( 284 ) .
 190صحيح : رواة الترمذي رقم : ( 3895 ) وصححه الألباني .
 191 أخرجه مسلم رقم : ( 2363 ) الشيص : هو البسر الرديء الذي إذا يبس صار حشفاً .
 192 أخرجه مسلم رقم : ( 2362 ) . يأبرون : يبذرون , فنفضت : نقص ثمرها .
 193 أنظر : " المسند " للإمام أحمد 2/177 .
 194 أنظر : " مسلم بشرح النووي " 15/17 .
 195 أخرجه البخاري رقم : ( 5360 ) ومسلم رقم : ( 2217 ) .
 196هذه الجزء مأخوذ من رسالة : " تحطيم الصنم العلماني " للدكتور محمد شاكر الشريف
 197 أنظر : " السنة والتشريع " للدكتور موسى شاهين ( ص : 32ـ47 ) ، و ينظر للإستفادة : " السنة تشريع لازم ودائم " للدكتور فتحي عبد الكريم ( ص : 32ـ33 ) , و " الأنوار الكاشفة " لعبد الرحم اليماني ( ص : 27ـ40 ) , و " المدخل إلي السنة " للدكتور عبد المهدي عبد القادر ( ص : 37ـ39 ) .  
 198 أخرجه البخاري رقم : ( 6128 ) .  
  199أنظر  " الجواب الكافي " لابن القيم : ( ص : 117 ) .
 200 أنظر : " يقظة أولي العتبار " للقنوجي ( ص : 210ـ213 ) .
  201صحيح : رواة الترمذي رقم : (  348 )  , وابن ماجة رقم : ( 769 )  وصححه الألباني .
 202 أنظر : " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة .
 203 أنظر : " عون المعبود شرح سنن أبي داود " للعظيم آبادي 2/113 .
  204أنظر : " حاشية السندي على سنن ابن ماجة " للسندي .
 205 أنظر : " فيض القدير شرح الجامع الصغير " للمناوي 2/320 .  
 206رواة البخاري رقم : ( 3326 ) .
207 أنظر : " صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان " 140/33ـ35طبعة ( مؤسسة الرسالة )
  208أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 6/266 .
  209أنظر : " مسلم بشرح النووي " للنووي 17/178 .
 210 أنظر : الطبراني كما في " فتح الباري " 5/183 , و" التوحيد " لابن خزيمة برقم ( 41 ) و " والإسماء والصفات " للبيهقي ( 291 ) و " السنة " لابن أبي عاصم 2/229 .  
 211 أنظر : " فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء " لأحمد بن عبد الرزاق الدويش 5/316ـ317 .
  212أنظر " فتاوى الأزهر " لدار الإفتاء المصرية .
  213رواة البخاري رقم : ( 5364 ) , ومسلم رقم : ( 2215 ) وغيرهم .
  214" فتح الباري " لابن حجر 10/144 .
  215رواة مسلم رقم : ( 1017 ) , وغيره .
 216 أنظر : " الإبداع في مضار الإبتداع " للشيخ على محفوظ , ( ص : 128 ، 130 ) , طبعة : ( دار  البيان العربي ـ الطبعة الأولى ) .  
 217 أخرجه البخاري رقم : ( 3142 ) وغيره .
 218أنظر : " زاد العاد في هدي خير العباد " لابن القيم 4/112 .
 219 أنظر : " معالم السنن " للخاطبي 5/340 .  
  220" زاد المعاد " لابن القيم 4/111 .
 221 أنظر : " معالم السنن " للخطابي 5/341 ، 342 .
  222" تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة ( ص : 230 ـ 231 )
 223 أنظر : " الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية " لمحمد كامل عبد الصمد .
 224 أنظر : " مسلم بشرح النووي " للنووي 15/116 .
 225 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 10/250 .
 226 رواة البخاري رقم : ( 5362 ) ومسلم رقم : ( 1671 ) اجتووا المدينة : كرهوا المقام بها لضرر أصابهم .
  227أخرجه البخاري رقم : ( 2196 ) .
  228أنظر : " السلسة الصحيحة " للإمام الألباني 1/14 .
 229 رواة مسلم رقم : ( 1570 ) والبخاري رقم : ( 3145 ) .
 230 رواة البخاري رقم : ( 2197 ) ومسلم رقم : ( 1575 ) .
  231رواة مسلم رقم : ( 4102 ) .
  232رواة مسلم رقم : ( 4103 ) .
 233 أنظر : " تأويل مختلف الحديث " لابن قتيبة ( ص : 135ـ 136 ) .  
  34رواة البخاري رقم : ( 3097 ) .
 235 أنظر : " مسلم بشرح النووي " 6/64 .
 236 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 3/28 .
 237 أخرجه البخاري رقم : ( 4524 ) ومسلم رقم : ( 159 ) وغيرهما .
 238 أنظر : " أيسر التفاسير " لأبو بكر الجزائري .
  239" تفسير القرآن العظيم " لابن كثير 3/283 .
  240رواة مسلم رقم : ( 159 ) .
 241 أخرجه البخاري رقم : ( 2703 ) , ومسلم : ( 2225) وغيرهم .
 242 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 6/61ـ62 .
 243 أنظر : " مسلم بشرح النووي " 14/221ـ222 .
 244 أخرجه ابن حبان في " صحيحه " رقم  (6123 ) وقال شعيب الأرنؤوط : إسناده حسن .
 245 أنظر : " التمهيد لما في الموطأ من المعاني والاسانيد " لابن عبد البر 9/283ـ285 .
 246 أخرجه البخاري رقم : ( 5088 ) ومسلم رقم : ( 1453 ) .
 247 أنظر : " الفرقان " لمحمد عبد اللطيف ( ص: 160 ) .
  248أنظر : " نيل الأوطار " للإمام الشوكاني 6/314 .
  249رواة مسلم رقم : ( 1453 ) .
 250 أخرجه النسائي رقم : ( 3322 )
 251 أنظر : " شرح الزرقاني على الموطأ " للزرقاني 3/292 طبعة ( دار الفكر ـ بيروت )
 252 أخرجه مسلم رقم : ( 1454 ) .
 253أنظر : " شرح الزرقاني على الموطأ " 3/292.
 254 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 9/53 .
 255 أخرجه أبو داود رقم : ( 2061 ) .
 256 أنظر : " النهاية في غريب الأثر " لابن الأثير 3/455 .
 257 أنظر : " شرح الزرقاني على الموطأ " 3/290 .
 258 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 9/36 .
  259أنظر : " المسند " للإمام أحمد 6/296 .
 262 أنظر : " مسلم بشرح النووي " 5/289 .
 261 أنظر : " شرح الزرقاني على الموطأ " 3/291 .
 262 أنظر : " الطبقات الكبرى " لابن سعد 3/58 .
 263 أخرجه البخاري رقم : ( 5102 )
264  أخرجه الدارقطني رقم : ( 10 ) .
 265 أخرجه الترمذي رقم : ( 1152 ) .
 266 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 9/52, و " سبل السلام " للصنعاني 3/154
 267 أخرجه مسلم رقم : ( 152 ) .
 268 أخرجه ابن ماجة رقم : ( 1944 ) , وأحمد في المسند 6/296 والداجن : الشاة التى يعلفها الناس فى منازلهم ، وقد يقع على غير الشاة من كل ما يألف البيوت من الطير وغيرها .
 269 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 9/53 .
 270أنظر : " فتح المنعم شرح صحيح مسلم " للدكتور موسى شاهين 9/176ـ177 .  
 271أنظر : " مسلم بشرح النووي " 5/285 .  
  272أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 9/53 , و " مسلم بشرح النووي " 5/289 , و " شرح الزرقاني " 3/291, و " نيل الأوطار " للشوكاني 6/315 , " سبل السلام " 3/153 .
 273 أنظر : " فتح المنعم شرح صحيح مسلم " 9/177 .
  274رواة البخاري رقم : ( 3192 ) , ومسلم : ( 151 ) .
  275أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 2/183 .  
  276أخرجه الترمذي رقم : ( 1158 ) وقال : صحيح حسن .
 277 أنظر : " مسلم بشرح النووي " 9/178ـ179 .
 278 أنظر : " فيض القدير شرح الجامع الصغير " للمناوي 2/389 .
 279 أخرجه البخاري رقم : ( 4992 ) ومسلم رقم : ( 818 ) .
 280 أنظر : " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي 1/94 .
 281 أخرجه أحمد في " المسند " رقم ( 122 ) .
 282 أنظر : " الأدب الجاهلي " ( ص : 94ـ95 ) .
 283 أنظر : " نظم المتناثر من الحديث المتواتر " للكتاني ( ص : 173 ) .
 284 أنظر : " القراءات في نظر المستشرقين والملحدين " لعبد الفتاح القاضي ( ص : 49ـ53 ) .
  285أنظر : " مجلة العربي " العدد 480 لسنة 1998 ( ص : 114ـ119 ) .
 286 أنظر : " الإحكام " لابن حزم 15/571ـ572  .
 287 أنظر : " فتح الباري " لابن حجر 8/640 .
 288 أنظر : " مناهل العرفان " 1/156.
  289أنظر : " مناهل العرفان " 1/154 .
  290أخرجه البخاري رقم : ( 4510 ) , ومسلم : ( 1464 ) .
 291 أنظر : " حاشية السندي على سنن ابن ماجة " للسندي 6/54 .
 292 أخرجه مسلم رقم  ( 3704 ) .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://hamelelmesk.yoo7.com
 
كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
موقع فرع الجمعية الشرعية بقرية البطاخ :: كتابات وأبحاث مشرف الدعوة بالفرع :: الحديث وعلومه :: كشف الشبهات عن الأحاديث المشتبهات-
انتقل الى: